خورشيد أحمد
.
ما يجري في سوريا يُنبئُ أنَّ الشعبَ السوريَّ على موعدٍ لدخولِ نفقٍ مظلمٍ ، إن لم يكن قد دخلهُ منذُ ” الفتحِ المبينِ ” للفصائلِ الظلاميّةِ المتطرّفةِ ، وعلى رأسها هيئةُ تحريرِ الشّامِ المصنّفةِ إرهابيّاً .
وحتّى لا يتفاصحَ أحدُهم ويدعونا لضرورةِ الحديثِ عنِ النظامِ الساقطِ ، سنقولُ له بدءاً : أنّنا لم نتركْ مناسبةً إلا وكتبنا عن موبقاتِ هذا النظامِ ، من ضرورةِ توفيرِ الحريّاتِ الديمقراطيّةِ ، إلى موجباتِ القطيعةِ التّامةِ مع السياساتِ الليبراليّةِ الاقتصاديّةِ التي أفقرتِ الشعبَ السوريّ وأوصلتهُ إلى حدِّ الإملاقِ .
ثمّةَ مؤشّرات أنّ سلطةَ الأمرِ الواقعِ بقيادةِ الجولاني تحاولُ تكريسَ أيديولوجيّتها الظلاميّةَ على كافّةِ المستوياتِ : الإجتماعيّةِ والسياسيّةِ والإقتصاديّةِ .
الجولاني ممثّلُ تنظيمِ القاعدةِ ، وموفدُ البغدادي ، وزعيمُ جبهةِ النصرةِ ، وفتحِ الشّامِ ، ثمّ هيئة تحريرِ الشامِ ، الذي وصلَ دمشقَ مرفوعاً على أكفّ قوىً استعماريةً لا تريدُ سوى التدميرِ لسوريا ، ومؤسساتها ، وبنيتها التحتيّةِ والعسكريةِ ، يحاولُ عبرَ كلماتٍ طريّةً ، ليّنةً ، لا تدعمها الأفعالُ بل تناقضها تماماً ، كلماتٌ تليقُ بالديمقراطيينَ أن يُقنِعَ العالمَ ومعهُ الشعبَ السوريَّ : أنّهُ قد طلَّقَ ماضيهِ الإرهابيّ الدَمويّ ، وتنكّرَ لإيديولوجيّتهِ المتطرّفةِ ، غيرَ عليمٍ أنّ مساحيقَ الأرضِ كلّها لن تستطيعَ تبييضَ هذا الماضي المتخمِ بالإرهابِ .
والمتتبّعُ للشأنِ السوريّ سيقبضُ بسهولةٍ ويُسرٍ على جملةِ مؤشّراتٍ تلخّصُ النهجَ الدكتاتوريَّ لسلطةِ الأمرِ الواقعِ ، فهي وإنسجاماً مع طبيعتها السلفيّةِ الجهاديّةِ تستندُ إلى مفهومٍ طائفيٍّ عنصريٍّ في التعاطي معَ أبناءِ الوطنِ الذينَ لا ينسجمونَ مع مشروعهم الظلاميّ ، وعليهِ يجري إقصاءَهم منَ العملِ الوطنيّ ، ذلكَ أنَّ الديمقراطيّةَ والعلمانيّةَ في قواميسهم هي بِدَعٌ غربيّةٌ تقومُ على فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ ، لذا فهيَ مفاهيمٌ وجميعُ ما يُبنى عليهِ من أحكامٍ ودساتيرَ وما ينبثقُ عنها من أنظمةٍ تتنافى مع الفكرِ الإسلاميّ .
( وهذا ما سنتعرّضُ له في حلقةٍ قادمةٍ ) .
فما جرى في ٢٩ كانون الثاني ٢٠٢٥ رسّخَ قاعدةَ الإستبدادِ لحكمِ البلادِ ، مقتدياً بنظريّةِ معاويةَ في الحكمِ ، والتي تتلخّصُ في قولِ خطيبهِ المُفَوَّهِ للناسِ ،” كما خطيبُ الجولاني ” وهو يأخذُ البيعةَ لنفسهِ ولابنهِ يزيد من بعدهِ دفعةً واحدةً :
( أيّها الناس اسمعوا وعوا : أميرُ المؤمنينَ هذا وأشارَ لمعاويةَ ، فإنْ هلكَ فهذا وأشارَ ليزيد ، فمنْ أبى فهذا وأشارَ إلى سيفهِ ) . فلقبهُ معاوية بأبلغِ الخطباءِ .
فقد أعطى خطيبهُ كاملَ الصلاحيّاتِ التنفيذيّةِ والتشريعيّةِ في إدارةِ الدولةِ للجولاني، أي أنّ قبضتهُ الشموليّةَ الدكتاتوريّةَ هي التي تستمدُّ قوّتها وشرعيّتها منَ السماءِ السابعةِ .
والغريبُ أنّ كلّ هذا قد جرى على مرأى ومسمعِ الأوساطِ الإمبرياليّةِ ، ذاتِ المساطرِ المتحرّكةِ وفقَ أجنداتها التي ترشّحُ منسوبَ النفاقِ في خطابها المراوغِ عن حقوقِ الإنسانِ ، فباركتْ بيعةَ معاويةَ وابنهُ يزيد دفعةً واحدةً ، أقصدُ الجولاني وطاقمهُ العسكريّ والوزاريّ .
ولأنّ قبضتهُ هي العليا فقد سارعَ إلى إصدارِ جملةٍ منَ القراراتِ ، منها إلغاءُ الدستورِ ، وحلّ مجلسَ الشعبِ ، وحلّ الأحزابِ ، في محاولةٍ ليسَ فقط لتغييبِ الحياةِ السياسيّةِ في سوريا ، بل الحكمَ عليها بالإعدامِ ، لكنّ القادماتِ من الأيامِ ستُثبتُ أنها محاولةٌ يائسةٌ وفاشلةٌ ، والمثلُ الشعبيُّ يقول :
” إللي يجرّب المجرّب عقلو مخرّب ” .
من هنا يتبدّى منسوبُ الديمقراطيّةِ العالي الذي تتمسّكُ به هذهِ المجموعةُ الشموليّةُ ، التي تحاولُ التدخّلَ في كلّ تفاصيلِ الحياةِ : من لباسِ المرأةِ إلى تناولِ المشروباتِ الكحوليّةِ .
إنّ الأجنداتِ الزمنيّةَ التي وضعوها لصياغةِ الدستورِ ، وإجراءِ الإنتخاباتِ ، والتي حُدِّدَتْ بثلاثِ سنواتٍ ، وأربعِ سنواتٍ ، ما هي إلا أجنداتٌ لتثبيتِ السلطاتِ ، ومدِّ شروشِ الأجهزةِ الأمنيّةِ والعسكريّةِ التي أُختيرتْ منَ طاقمِ البطانةِ الظلاميّةِ .
وفي سوريا منَ الكفاءاتِ السياسيّةِ ، والإقتصاديّةِ ، والعلميّةِ ، والثقافيّةِ ، والقانونيّةِ ما يكفي ويزيدُ لصياغةِ عشراتِ الدساتيرِ العصريّةِ والمتطوّرةِ ، خلالَ فترةٍ وجيزةٍ ، والتاريخُ يشهدُ على مساهمةِ الخبراءِ القانونيينَ السوريينَ في صياغةِ الدساتيرِ لأربعِ دولٍ عربيّةٍ ، كما تجبُ الإشارةُ إلى أنّ دستور عام ٢٠١٢ ليسَ كلّهُ سيّئاً ، فثمّةَ موادٌ بحاجةٍ إلى حذفٍ ، أو تعديلٍ ، ويمكنُ الاستنادُ على ما تبقّى من الموادِ التي لا ترتقي إليها أيّ ملاحظةٍ .
هذا في المستوى السياسيّ ، أما في المستوى الاجتماعيّ والإقتصاديّ فإنّ سلطةَ الأمرِ الواقعِ تتصرّفُ بروحٍ انتقاميّةٍ ، حيثُ تشهدُ بعضُ المُدنِ والأريافِ ولطبيعتها الطائفيّةِ عمليّاتٍ انتقاميّةٍ منظّمةٍ، توضعُ على الدوامِ في خانةِ العمليّاتِ الفرديّةِ والتصرّفاتِ الشخصيّةِ ، من عمليّاتِ خطفٍ ، وإغتيالاتٍ ، ونهبٍ للممتلكاتِ الخاصّةِ ، وإبتزازٍ وتظلّ كلّها قانونيّاً مسؤوليّةَ السلطةِ الحاكمةِ .
ويترافقُ كلّ ذلكَ بتضييقاتٍ على الحقوقِ الإجتماعيّةِ لجماهيرِ الشعبِ ، حيثُ تمَّ تسريحُ عشراتِ الآلافِ منَ العاملينَ في مؤسساتِ الدولة / التعليم – الصحّة .. وغيرها /
كما تمّ تصفيةَ العديدِ من منشآتِ قطاعِ الدولةِ المملوكِ قانونيّاً للشعبِ السوريّ ، في توجّهٍ ليبراليّ واضحٍ وجليّ ، بتصفيةِ القطاعِ العامِ/ قطاعُ الدولةِ / والأخذِ بالخصخصةِ واللبرلةِ التي أحدثت على مدى السنواتِ المنصرمةِ استقطاباً كبيراً في المجتمعِ السوريّ ، لترتفعَ مناسيبُ الفقرِ إلى معدّلاتٍ قياسيّةٍ لم تشهدها البلادُ في تاريخهِا ، والتي ساهمتْ في تجويعِ الشعبِ إلى حدٍّ مرعبٍ .
والآنَ وأمامَ هذهِ الوقائعِ الصادمةِ والكارثيّةِ ، ما هي المهامُ التي تنتصبُ أمامَ الشعبِ السوريّ وقواه الوطنيّة والتقدميّة ؟؟؟
لا شكّ أنّ أولى المهام هي العملُ على وحدةِ الصفّ الوطنيّ في بلادنا ، من خلالِ لقاءاتٍ تضمُّ كلّ القوى السياسيّةِ الوطنيّةِ والتعبيراتِ الموجودةِ في الساحةِ الوطنيّةِ والمجتمعِ السوريّ ، من النقاباتٍ المهنيّةٍ والمنظماتٍ الشعبيّة، والشخصيّاتِ الوطنيّةِ المستقلّةِ ، وكلّ من يحملُ مشروعاً وطنيّاً ، لمواجهةِ هذا الاستبداد والتفرّد المطلقِ بمصيرِ سوريا ومقدّراتها ، ومن أجلِ ألا تُنكّسَ أعلامُ الديمقراطيّةِ ، والعلمانيّةِ ، والتقدّمِ ، والعدالةِ الاجتماعيّةِ في سمائها.