العمى الأبيض

العمى الأبيض

المقال منشور في صوت الشعب عدد(405) في زاوية دردشات ثقافية
………………….

لم ينل جوزيه ساراماغو جائزة نوبل عام 1998 لقاء روايته الجميلة ( العمى ) عن عبث ..بل نالها لمكوناتها وخصائصها الابداعية الموجودة فيها والتي اهلتها لأن تحتل موقعا متقدما في صفوف الابداع الروائي العالمي إذ أن الرواية لا تسير على سطح الأشياء..بل تغوص في عمقها وفي ثناياها، و في أعماق النفس البشرية، لتنبش هذه الأعماق.. وتقدمها بكل تناقضاتها وصراعاتها ومرارة هذه الصراعات
صحيح ان ساراماغو بنى روايته على فكرة افتراضية ، تقول بانتشار وباء ( العمى الأبيض )والذي يصيب المجتمع بكل مكوناته ،فإننا نجد أن هذه الحالة الافتراضية لا تحلق في الفضاء..بل هي حالة ذات دلالات واقعية ملموسة حقيقية..اجتماعية وسياسية.. وذات دلالات نفسية من خلال الإضاءة على النفس البشرية كما اسلفنا.،وكذلك فإن كاتبنا الكبير والماهر..يجيدحياكة عالمه الروائي من خلال اهتمامه بنسج التفاصيل الصغيرة والتي لا تأتي عابرة أو ثانوية اوعبارة عن تزيين أدبي..بل تأت هذه التفاصيل لتجذر وتعمق الفكرة العامة التي يريد ان يقولها العمل الروائي ،ولتقل لنا ان ما هو افتراضي هو واقعي تماما…!!
في روايته هذه لا يحدد ساراماغو مكانا ولا زمانا ، الا من خلال اشارات بسيطة تشير ولكن بشكل واضح، حيث ندرك ان ما يحدث انما يجري في زمن معاصر. وراهن وفي عالم المدينة تحديدا وربما كان ذلك اشارة للعالم الرأسمالي المعاصر.. الذي يحدث فيه ما يحدث.
وكذلك لا أسماء محددة في الرواية بل صفات ، ومن خلال هذه الصفات تتحدد معالم الشخصيات..مثل طبيب العيون ، زوجة الطبيب، اللص، الرجل ذو السلاح ، الأعمى الأول وزوجته ، الطفل الأحول..الخ
العمى يصيب الجميع إلا زوجة طبيب العيون التي تدعيه ، وهي الوحيدة التي ترى ما لايراه الآخرون انها تبصر وتساعد ابناء مهجعها ..بعد ان تم الحجر عليهم في مشفى الأمراض العقلية، وهي الوحيدة التي تعرف كل الأحداث التي تدور من حولها،وهي التي تنقل لنا صورة مايجري بحذافيره ،زوجة الطبيب التي ترى هي تعبير عن حالة الوعي.. الوعي الذي يبصر من خلاله الآخرون. بل وهذا الوعي هو الذي يخلصهم من مغتصبيهم وسارقيهم.. حين تستطيع قتل مغتصبها ومغتصب النساء الأخريات ، والذي يسطو على ما يمتلكه اهل المهاجع المحجورون في مشفى المجانين بسبب امتلاكه وعصابته السلاح الذي يهددون ويقتلون به بقية الناس ، ويحتكرون الغذاء الذي هو من حق الجميع ويبتزونهم به، وفي نهاية الأمر تقوم زوجة الطبيب بإحراق المهجع الذي يسكنه اللصوص وبلطجية العميان ،وتخرج الأخرين من المبنى والذ ي هو…كما اسلفنا مشفى للمجانيين في الأساس و الذي ينهار في النهاية.

العمى في الرواية ليس هو العمى البيولوجي المتعارف عليه والذي يمكن ان نسميه العمى الأسود.والذي لا ينتقل عن طريق العدوى ولايؤثر الاعلى صاحبه.. بل هو هنا من نوع أخر، هوعمى أبيض وهو في حقيقة الأمر وباءخطير لأنه معدو يستشري وينتشر.. فلماذا كان العمى البيولوجي اسود وهذا العمى أبيض؟؟؟
اللون الأسود فيزيائيا هو انعدام اللون اي موت الضوء. بينما اللون الأبيض هو لون مركب من سبعة الوان.. فهل اراد ساراماغو ان يشير الى ان العمى البيولوجي هو أمر بسيط وفردي، بينما العمى الأبيض هو عمى مركب ؟؟ وهو دليل على ان المصاب لا يرى إلا لونا واحدا ، فهل يقصد هنا انه في المجتمع الراسمالي هناك وعي مزيف هو أشبه بالعمى رغم انه أبيض ومن لون الضوءغير ان صاحبه لا يرى…!!!
في نهاية الأمر وبعد هذه المحنة العصيبة والقاتلة بعالمها الكابوسي يعود البصر للجميع فجأة..
طبعا في الروايةكثير من المحطات التي يجب الوقوف عندها مثل كلب الدموع الذي تصادفه زوجة الطبيب وهي تبكي فيأتي ليمسح دموعها بلسانه..وعلى ما يبدو فان للكلب رمزية خاصة محببة لها عمقها الانساني عند ساراماغو الذي نجده في رواية الكهف وفي رواية العمى شخصية روائية غير هامشية..إطلاقا
العمى رواية متميزة في العالم الروائي العالمي.. جديرة بالقراءة الهادئة والمتبصرة لنحقق اعلى درجات المتعة بتذوق الأدب
تقول بطلة الحدث الروائي( زوجة الطبيب) في ختام الرواية:( لا اعتقد أننا عمينا..!! بل أعتقد أننا عميان يرون….بشر عميان يستطيعون أن يروا… لكنهم في الحقيقة لا يرون )
الرواية من ترجمة محمد حبيب…صادرة عن مكتبة نوبل..1998…وتقع في 318 صفحة
نضال الماغوط

اترك تعليقاً

Scroll to Top