: خورشيد أحمد
———————————————————————————-
الحلقة الثامنة والاخيرة.
إخفاق المشروع التركي – الإخواني في المنطقة .
قد يكونُ من نافلِ القولِ التأكيدُ على الإقرارِ بأنّ للإسلامِ ثقلاً كبيراً في المجتمعِ التركيّ ، الأمرُ الذي انتصبَ عائقاً ، بل وقفَ في وجهِ محاولاتِ الحكوماتِ التركيّةِ المتعاقبةِ ، بعدَ مؤسّسِ تركيا الحديثةِ ، لتحديثِ تركيا ، وجعلها اجتماعيّاً جزءاً من المجتمعاتِ الغربيّةِ كما أرادَ لها أتاتورك .
وقد صرّحَ بولند أجاويد : زعيمُ حزب الشعبِ الجمهوريّ أنّ تركيا في ظلّ الحكمِ العسكري خاصةً بدأت تمارسُ دورها كاملاً
ضمنَ إطارِ منظمةِ المؤتمرِ الإسلاميّ ، إلى حدٍّ وصلت معهُ لأن تتبنّى قرارات شديدة التعارض مع أفكارِ العلمنة ، على حدّ تعبيرهِ .
وقد شهدتْ تركيا تاريخيّاً ولادةَ تيّاراتٍ إسلاميّةً توزّعتْ من حيثُ توجهاتها الدينيّةِ والسياسيّةِ إلى ثلاثةِ تياراتٍ رئيسةً :
١ – التيّارُ الديني القومي :
الذي دعا إلى التشدّد الديني على أساسٍ قوميّ
( حسب السياسة العثمانيّةِ ) ، أي أنّ تركيا المسلمة من خلالِ موقعها التاريخي ، وقوتها العسكرية ، واستعادة إرثها الديني المفقودِ ، يمكنها أن تلعبَ دوراً قياديّاً في المنطقة .
وهذا التيار ينطلق من تمايز العنصر التركي ، وإنّ مجالَ هذا التمايز يجبُ أن يكونَ ضمنَ العالم الإسلامي ، وليسَ خارجهُ .
٢ – التيّار الديني الأصولي :
ويدعو إلى التشدّد الديني على أساس الشريعة الإسلاميّة ، ويرى في تركيا جزءاً من العالم الإسلامي ، والعودة إلى جوهر التعاليم الإسلامية الصحيحة ، كما يدعو إلى استعمال اللغة العربية كلغةٍ رسميةٍ في البلاد ، بإعتبارها لغةَ القرآن . ويتشدّدُ هذا التيار في الموقفِ من الشيوعيّة .
٣ – التيار الإسلامي الموجّه:
وهو التيار الذي يتسلّح بالشعارات الإسلامية ظاهرياً ، لتحقيقِ أهدافٍ سياسيّةٍ محدّدةٍ جوهريّاً ، تصبّ بغالبيتها في تحقيقِ الإرتباطِ الأوثقِ معَ السياسةِ الإمبريالية الأمريكية.
فمثلاً تحتَ شعارِ معاداةِ الشيوعيّة ، وأطماعِ الإتحاد السوفييتي ، جرتِ الدعوةُ للإرتباطِ بالولاياتِ المتحدة الأمريكية ، وحلف شمال الأطلسي بهدفِ تأمين الحمايةِ لتركيا ، وتحتَ شعارِ حمايةِ المسلمينَ في قبرص ، جرتِ التعبئةُ ضدّ اليونان .
واليوم لا تقوم العلاقةُ بين تركيا وتنظيم الإخوان المسلمين فقط على الوشائجِ المتينةِ التي تجمعُ النخبةَ السياسيةَ الحاكمةَ في تركيا ، مع مختلفِ جماعاتِ الإسلامِ السياسي في المنطقةِ العربيّةِ ، وخاصةً جماعةَ الإخوانِ المسلمين ، وإنّما تتأسّس على تلكَ الروابطِ العابرةِ للإطارِ السياسيّ ، إلى النسقِ الأيديولوجي ، الذي يجعلُ من الجانبينِ وحدةَ حالٍ في الإنتماءِ لتيّارٍ عقائديّ واحدٍ ، وذلك منذُ أن أقدمَ نجم الدين أربكان على تأسيسِ حركةِ
” المللي جورش ” في ستينياتِ القرنِ الماضي ، والتي تمثّلُ الجناحَ التركيّ لجماعةِ الإخوان المسلمين .
وقد انبثقَ من رحمِ هذهِ الحركةِ العديدُ من الأحزابِ السياسية ، ومن ضمنها حزبُ ” العدالةِ والتنمية ” الحاكمُ في تركيا ، رغمَ أنّهُ مثّلَ التيارَ التجديدي ، والذي انقلبَ على تيارِ أربكان داخلَ حزبِ “الفضيلة ” عام ٢٠٠١
هذا التيار قاده الثنائي عبدالله غول الرئيس التركي السابق ، ورجب طيب أردوغان الرئيس التركي الحالي ، والذي استطاعَ عبرَ سياسةِ التدرّجِ خطوةً فخطوة أن يهيمنَ على معادلةِ الحكمِ في تركيا ، وكذلك داخلَ حزبِ العدالةِ والتنمية ، وبعملٍ متواصلٍ استغرقَ سنواتٍ من حكمهِ ، من أجلِ إبعادِ خصومهِ ، لصالحِ التيارِ المؤدلجِ الذي يؤمنُ بفكرةِ
” الرئيس الخليفة ” ، الذي يتخذ من الشعارات القومية سبيلاً لتعظيمِ حضورِ تركيا في وسطِ آسيا والقوقاز ، ويتخذ من الشعاراتِ الدينيةِ منهجاً لإعادةِ صياغةِ روابطِ تركيا مع الدولِ العربيّةِ ، كلّ ذلك بهدفِ استعادةِ تركيا ميراثَ الدولةِ العثمانيّةِ ، عبرَ إعادةِ سيطرةِ تركيا على أجزاءَ من الأراضي التي افتقدتها بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى ، وما التلويحُ التركي بالميثاق الملّي في وجهِ دولِ الجوارِ إلا محاولةً تندرجُ في هذا السياقِ .
كلّ ذلكَ بدعمٍ من وكلاءَ محليينَ يهيمنُ عليهم عناصر من جماعةِ الإخوانِ المسلمين ، في ميادينَ ملتهبةً بالجوارِ التركيّ .
وفي إطارِ الرهانِ التركيّ على جماعاتِ الإخوان المسلمين لتنفيذِ المشروعِ التركيّ التوسّعي في المنطقةِ يذهبُ ياسين أقطاي مستشار أردوغان في لقاءٍ تلفزيوني ، عُرضَ عبرَ قناةٍ فضائيّةٍ ، تابعةٍ لتنظيمِ الإخوان المسلمين ، إلى القول :
” إسقاطُ الخلافةِ العثمانيّةِ تسبّبَ في فراغٍ سياسيّ في المنطقة ، وإنشاءُ جماعة الإخوان المسلمين كانَ نوعاً من الإنقاذ للأمّةِ الإسلامية “
ويمكنُ تبيّن هذا الدور في العلاقةِ العضوية بين تركيا والإخوان المسلمين ، وإستثمار تركيا لهم كأدواتٍ في تنفيذِ مشاريعها التوسعيّة في المنطقةِ من خلالِ رصدِ الممارساتِ التركيةِ ومواقفها من الصراعاتِ داخل البلدانِ العربيةِ ، وانحيازها الدائم إلى الجبهةِ التي تنتظمُ فيها جماعاتُ الإخوان المسلمين :
١ – ففي السودان ظلّت تركيا على مدى ثلاثةِ عقودٍ من حكمِ الإخوان المسلمين على علاقةٍ طيّبةٍ ووديّةٍ معهم . بل عملت على تمكينهم ودعمهم على الدوام .
وبعدَ سقوطِ النظامِ السوداني ، اتخذَ عناصر النظام من تركيا ملاذاً آمناً ، حيثُ قامَ العديدُ من قادةِ الإخوان ببيعِ ممتلكاتهم وتحويلِ أموالهم إلى ماليزيا وتركيا ، وقد مارست تركيا في ذلك الوقت ضغوطات كبيرة على الحكومةِ الإنتقاليةِ للتراجعِ عن قراراتها بإزالةِ التمكين أو تحقيقِ مصالحةٍ ، تعودُ بالجماعةِ إلى الحكمِ مرّةً أخرى تحتَ مسمّى آخر .
وقبيلَ هذهِ الأحداث كانَ أردوغان قد زارَ السودان في ٢٤ كانون الأول ٢٠١٧ وهي الأولى من نوعها لرئيسٍ تركيّ منذُ استقلالِ السودان عام ١٩٥٦ .
وفي خطوةٍ رمزيةٍ ذات دلالة أهدى أردوغان خلال زيارتهِ نسخةً من القرآن مكتوبةً بخطّ اليد ، إلى زوجةِ حسن الترابي زعيم حزب ” المؤتمر الشعبي ” .
ومع اقترابِ نهايةِ حكم الإخوان في السودان ، تسابقت قيادات الجماعة وناشطوها في الوصولِ إلى بوابةِ الخروجِ ، فكانت تركيا الوجهةَ المفضّلةَ لمسؤولي الحزبِ الحاكمِ ، نظراً لإمتلاكِ معظمهم استثماراتٍ هناك .
ولم يقتصر دورُ تركيا على الإخوان المسلمين السودانيين ، إنما شمل أعضاءَ الجماعةِ المصريينَ ، من الذينَ كانوا يختبؤونَ في السودان ، ورصدِ تحركاتهم بهوياتٍ مزوّرة بين السودان وقطر وتركيا ، وأدّت هذه المتابعة إلى إكتشافِ خليّةٍ سريّةٍ تابعةٍ لهم في شباط ٢٠٢٠ أُعلنَ أنّها كانت تخطّطُ لتنفيذِ عمليّاتٍ إرهابيةٍ في الخرطوم والقاهرة ، وهي ضمنَ مجموعة أخرى قدّمَ لها النظام السابق تسهيلاتٍ للاستقرار في الخرطوم من دونِ ملاحقة منذ عام ٢٠١٣،
وفي السياق أعتمدت آليات تحرّك جماعة الإخوان السودانية على تمويلِ قنواتٍ إعلاميّةٍ تعرّضت للإيقاف بقرارات ” لجنة إزالة التمكين ” أبرزها قناة ” طيبة ” إلى البث من تركيا ، التي فتحت لهم ذراعها ، حيثُ تروّجُ بينَ وقتٍ وآخرَ لحدوثِ إنقلاباتٍ عسكريّةٍ في السودان ، وعُرفَ مالكو هذه القنوات والاستثمارات في مجالِ الإعلام بتأييدهم الشديدِ لعمر البشير ، كما تعملُ القنوات على تعبئةِ المناصرينَ والحشد للتظاهراتِ المؤيدةِ لإطلاق سراحِ البشير وقادة النظام السابق من سجن كوبر .
كما لعبت هذه القنوات أدواراً قذرةً في الحضّ على القتلِ وممارسةِ الإرهاب ضدّ الخصومِ السياسيينَ للجماعة . فقد أفتى الداعية السودانيّ الإخوانيّ عبد الحي يوسف بقتلِ الساسيينَ ممّن أسماهم : الأحزاب العميلة ‐ أحزاب الحريّة والتغيير –
٢ – وفي تونس ومنذ أواخرِ الستيناتِ الذي شهد أوّل اجتماع لعدد من الشباب التونسي المحمّل بأفكارِ الإخوان المسلمين كراشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وغيرهم لتأسيس حركةٍ تونسية إسلامية شبيهة بالمصرية ، حيثُ انبثقَ عن اجتماعهم الثاني عام ١٩٧٢ في مدينة برناق في ضواحي تونس العاصمة ، ولادة ما عُرفَ بالجماعة الإسلامية ، التي أصبحت لاحقاً حركة الاتجاه الإسلامي ، في ظلّ حكمِ الحزب الاشتراكي الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة ، الذي رحّبَ بفكرة وجود حزبٍ دينيّ لاستثماره في مواجهة التنظيماتِ اليساريّةِ المعارضة ، وهذا ما حرّكَ شهيّةَ الجماعة الإسلامية لخوضِ غمار السياسةِ ، وهو السببُ نفسه الذي دفع نظامُ بورقيبة سريعاً للقبضِ على قادتها ، وبينهم الغنوشي ومورو ، وقد انقسمت الجماعة بعد ذلك على نفسها ، ليخرجَ منها ما عُرفَ باسم اليسار الإسلامي أو الإسلام التقدّمي الذي قاده كلّ من احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي ، في حين ظلّ كلّ من راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو يقودان الاتجاه الإسلامي ، وقد انضمّت الحركة إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يأخذُ من لندن مقرّاً له .
ومنذُ ذلك الحين لم تنقطع علاقات جبهةِ النهضة مع اخوان تركيا في إطارِ التوجّهات العامةِ للاتحادِ الدولي للإخوان المسلمين .
٣ – وفي ليبيا :
وانطلاقاً من الجذرِ العقائدي والبراغماتيةِ السياسية والاقتصادية في تمكينِ المشروعِ التركي التوسّعي في ليبيا ، بالاعتمادِ على مرتكزات الداخل الليبي المتمثلِ في الجماعاتِ الإسلامية ، والتي طفت على السطحِ مدافعةً عن المصالحِ التركية أكثرَ بما لا يقاس في دفاعهم عن مصالحِ ليبيا الوطنية .
من هنا سارعت تركيا إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي باعتبارهِ
” الممثل الوحيد للشعب الليبي ” ، وبعد دخولِ طرابلس تحت سيطرة المجلس الوطني الانتقالي ، كانت تركيا أول دولة تعيّنُ سفيراً لها في طرابلس في ٢ أيلول ٢٠١٤ ، كما أنّ وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو قد حضرَ حفلَ التوقيع على الاتفاق السياسي الليبي الذي تمّ التوقيع عليه في كانون الأول ٢٠١٥ ، والذي أُنشئَ بموجبهِ المجلس الرئاسي ، وكانت تركيا أوّل دولة تزور المجلس الرئاسي في مقّرّهِ .
كما تمكّنت تركيا من توقيعِ مذكرتي تفاهم بشأن ” ترسيم حدود مناطق الولاية البحريّة في البحر المتوسّط ” ، والتعاون الأمني والعسكري ” مع حكومة الوفاق الوطني في ٢٧ تشرين الثاني ٢٠١٩ .
وقد هاجمَ أسامة الجويلي ومعه عددٌ من قيادات الإخوان المسلمين بشدّة طلب اللجنة العسكرية 5+5 إلغاء الاتفاقيات السابقةِ مع تركيا ، وسحبَ جميعِ القوّاتِ الأجنبيّةِ ، وعلى رأسها القواتُ التركيّةُ ، والآلافُ من مرتزقتها السوريين .
وقد أبقى تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا سيطرتهُ على المجلس الأعلى للدولة بالبلاد ، بعد انتخاب محمد تكالة المحسوبِ على حزب
” العدالة والبناء ” الذراع السياسي للتنظيم لمنصب رئيس المجلس ، خلفاً لخالد المشري والمحسوبِ أيضاً على تنظيم الإخوان المسلمين .
وتوالت تصريحاتُ قيادات الإخوان الليبيّة والموالين لهم ممّن كان لهم دورٌ وازنٌ ، وتأثيرٌ قويّ كونهم كانوا من أمراءِ الحرب ، التي أطاحت بنظام القذافي ، تشجّعُ كلّها على العودةِ للإحتكامِ للسلاح .
ويأتي في مقدمةِ هؤلاء أسامة الجويلي القائد العام السابق لمجلس الزنتان العسكري ، وآمر غرفة العمليات المشتركة بالمنطقة الغربية في عملية بركان الغضب ، والذي تزامنت تصريحاته مع حملةٍ ممنهجةٍ لقياداتٍ إخوانيّةٍ على قناة ” التناصح ” ، التابعةِ لمفتي ليبيا المعزول
الصادق الغرياني ، المقيم في تركيا ، والذي يُعتبرُ الأبَ الروحيَّ للإخوان تصبُّ في الاتجاهِ نفسهِ .
وقد تقاطعتِ التصريحاتُ كلّها في نقطةٍ واحدةٍ وهي : رفض طلب تجميد الاتفاقيات ومذكراتُ التفاهم بين تركيا وحكومةُ الوفاق الوطني الليبية بقيادة فايز السرّاج ، وقد بلغت هذه الحملةُ مناسيبَ غير مسبوقة مع تهديدِ قياديّ بارزٍ في جماعةِ الإخوان المسلمين عبد الحميد الدبيبة بحربٍ جديدةٍ في حالِ المساسِ بالاتفاقياتِ مع تركيا .
وتزامن معه تصريحٌ لمحمود عبد العزيز : عضو المؤتمر العام السابق عن حزب العدالة والبناء : ” إياكم يا عبد الحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي أن تمسّوا الاتفاقية مع تركيا ، قسماً بالله ستكونُ ثورةً جديدةً و17 فبراير جديدة ” .
وهكذا كشفَ إخوانُ ليبيا خيانتهم للمصالح الوطنية لبلادهم لصالح سيّدتهم تركيا .
بالمقابل سعت كلّ من تركيا وقطر إلى وضعِ خارطةِ طريق لتمكينِ إخوان ليبيا من الحكم ، حيثُ نظّمت جماعة الإخوان الليبية صفوفها في تركيا للعودةِ إلى المشهدِ السياسي ، والهيمنةِ على مؤسساتِ الدولةِ الليبيةِ ، عبرَ تشكيلِ ما يُعرَفُ ب ” التكتّل الوطني ” ، وتشكّلُ هذهِ الخارطةُ تحركاً جديداً تقودهُ تركيا وقطر ، عبرَ جماعةِ الإخوان المسلمين الليبية وقياداتها ، للهيمنةِ على المشهدِ السياسي عبر طرحِ ما يُعرفُ بمشروعِ المصالحةِ الوطنيّةِ ، الذي أعدّهُ الإخوانيّ علي الصلابي المقيم في إستانبول ، وهو يُصنّفُ أحدَ أبرزِ تلاميذِ الإرهابيّ يوسف القرضاوي داخلَ ما يُعرفُ ب ” اتحاد علماء المسلمين ” .
وقد قادت تركيا تحركات مكثفة في المشهد الليبي من تمويل ميليشيات مسلّحة تنتمي لتيار الإخوان المسلمين ، كما نظّمت مؤتمرات سياسية بإشرافِ الإخوان ردّاً على تهميشِ أنقرة في مؤتمرِ بالميرو الذي احتضنتهُ إيطاليا .
كما فتحت تركيا لأبناءِ العديدِ من قياداتِ الإخوان الليبيّة فرصاً للدراسة ، والذين يمتلكون في تركيا مقرّات بث قنوات خاصة ، تظهر للعالم أنّها حركات معتدلة .
ويُعدّ علي محمد الصلابي الذي نشأ في ليبيا والمقيم في قطر هو الزعيم الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين الليبيّة، وهو يمتلك روابط قويّة ب “الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا ” وله سجلّ حافلٌ بالقضايا الإرهابية حيثُ تورّطَ في الهجمات على الكنائسِ المصريّةِ ، فيما كان الكفيلَ الأوّلَ لمتطرّفي جماعةِ بوكو حرام سواءً في نيجيريا أو مالي ، وبمساعدةِ راشد الغنوشي ، وباستخدامِ أموالِ قطر التي ساهمتْ في إرسال المتطرّفينَ إلى سوريا والعراق عبرَ تركيا .
الجديرُ بالذكرِ أنّ الباحثينَ في مراكزِ الدراساتِ يجمعونَ أنّ حركةَ الإخوان المسلمين في ليبيا هي اختراعُ المخابراتِ السريّةِ البريطانيّة ، التي انطلاقاً من عام 2004 حاولت بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزيّة ووزارة الخارجية الأمريكية زعزعةَ استقرار الأنظمة العلمانية العربية ، واستبدالها بالإخوان المسلمين حتّى الوصول إلى ما عُرفَ ” بثورات الربيع العربي ” سنة ٢٠١١
٤ – وفي سوريا ومصر :
في زيارةٍ لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو لسوريا في بدايات الأحداث فيها ، جاءَ محمّلاً بفيضٍ من النصائح ( الإملاءات ) التي يمكن لسوريا أن تأخذ بها لتتجنّب الحرب ، وفي مقدمةِ الاشتراطاتِ التركية هو إشراكُ الإخوان المسلمين في حكمِ سوريا ، ولمّا قُوبلَ شرطها بالرفضِ ، كانَ التعاطي التركي مع الأزمةِ السوريةِ منذ عام ٢٠١١ أن جعلت من أراضيها منطلقاً لتحرّكِ المعارضةِ السورية سيما جماعة الإخوان المسلمين ، ولاحقاً وظّفتها عسكرياً من خلالِ عملياتها العسكرية في الميدانِ السوريّ ، وهي استراتيجيّةٌ سبقَ أن اختبرتها تركيا في العراق ، كما قامت بتدريبِ بعضِ العناصرِ المنشقينَ عن الجيشِ السوريّ على أراضيها ، وفي يوليو ٢٠١١ اعلنت مجموعة منهم ميلاد ما سُميَ بالجيشِ السوريّ الحرّ تحتَ إشرافِ المخابراتِ التركيّةِ ، وإلى جانبِ قطر زوّدت تركيا الإرهابيينَ بالأسلحةِ والمعدّاتِ العسكريّةِ الأخرى ، ودخلت في اشتباكاتٍ حدوديّةٍ مع سوريا في تشرين الاول ٢٠١٢ ، كما بدأتِ القوات التركية في ٢٤ آب ٢٠١٦ بتدخلٍ عسكري مباشر معلن في سوريا بدعوى محاربة داعش والقوات الكردية . إلى أن أتمّت احتلالها لمناطق واسعةٍ من الشمال السوري إمتدّت من عفرين إلى مدينةِ رأس العين .
وقد هلّلت تركيا لوصول الإخوان المسلمين إلى سدّةِ الحكم في مصر ، عندما صعدَ الإخواني محمد مرسي كرسيّ الرئاسةِ فيها . وقد ترافقَ هذا التهليلُ بصدورِ بيانٍ للبيتِ الأبيضِ الأمريكي يرحّبُ فيه بنجاحِ الرئيس مرسي ، وكذلك عبّرت عن ترحيبها بهذا النجاح بعضُ المراكزِ البحثيّةِ الأمريكيّةِ ، انطلاقاً من نظرة الإدارة الأمريكية بأنّ الإسلامَ السياسي هو حصانُ السبقِ الذي يمكنُ للإدارة الأمريكية أن تراهنَ عليه في صياغةِ مستقبلِ المنطقةِ وفقَ مصالحِ الأمنِ القومي الأمريكي ، لذلك اتخذت سياسةَ المهادنةِ ، ورأت في المشروع الإخواني مشروعاً لمستقبلِ المنطقة ، حيثُ وصلَ الإخوان إلى الحكم في تونس والأردن والمغرب .
ومن أجلِ تمدّدِ قواتِ تركيا العسكرية إلى خارجِ حدودها الجغرافيةِ ، لجأت إلى استخدامِ قدراتها الماليةِ وإمكانياتها الإعلامية لخدمةِ مشروعِ الإخوان في مصر ، والقائمِ على استهدافِ الدولةِ المصريةِ ، والعبثِ باستقرارها سياسياً وأمنياً واقتصادياً .
كلّ ذلك ترافقَ مع ما أشاعهُ الإخوان وعبرَ وسائلِ الإعلام التي يسيطرونَ عليها من وصفِ أردوغان ب ” الخليفة ” وقد عبّرَ عن ذلك على سبيلِ المثال يوسف القرضاوي الزعيم الروحي للإخوان المسلمين الذي قال: ” إنّ أردوغان يمثّلُ الخليفة والممثّل لنموذج الحكم الإسلامي في العصر الحديث ” .
وقد ذهبَ العديدُ من قياداتِ الإخوان إلى الإعتراف بأنّ تركيا تمثل النموذجَ القابلَ للاستنساخ سيما في مرحلةِ ما بعدَ
” ثورات الربيع العربي ” .
وبهذا فقد ارتكزت السياسات التوسعيّة التركية في الساحةِ الإقليمية على الأدوارِ التي أدّتها الجماعة لخدمةِ حكمِ أردوغان ، ليس على الساحةِ المحليّةِ وحسب- عبرَ التجييش الداخلي في الخطاباتِ الشعبويّةِ والاستمرارِ في السيطرةِ على الحكمِ من خلالِ استخدامه لهم في مشروعهِ الخارجي ، القائمِ على التغلغلِ في المنطقة العربية، واستغلالِ قضاياها الصراعيّةِ بما يحقّقُ مصالحَ تركيا .
لكنّ الرياحَ جرتْ بما لا تشتهيها السفينةُ التركيّةُ ،
فقد فشلَ المشروعُ الإخوانيّ في مصر فشلاً ذريعاً ، حيثُ سقطَ محمد مرسي ومعه كامل مشروع الإخوان بعد عامٍ فقط من الحكم ، الذي كان كفيلاً بتبيانِ وجهِ الإخوان ، حيثُ عادَ الجيشُ لمقعدهِ القديم ، وعادَ الإخوان لمكانهِ الأصيلِ حيثُ السجونُ وبلادُ التهجير .
وفي تونس سقوطٌ مريعٌ لشعبيّةِ حركةِ النهضة الإخوانيةِ ، وفي السودان زلزلت المظاهرات الشعبية عرشَ الجماعةِ المتربعةِ على كرسيّ الحكمِ في الخرطوم منذُ ثلاثةِ عقود ، وفي ليبيا قال الجيش الليبي لا للإخوان الذينَ يتربعونَ في العاصمة ، فقبلوا بمصالحةٍ فُرِضَت بالقوةِ على أبناءِ التنظيم .
وفي الجزائر انتخابات حرّة شهدت خسارتهم في سباقهم للاستيلاء على كرسيّ الحكومةِ والبرلمان . وفي تونس أطلقَ الرئيس قيس سعيّد رصاصةَ الرحمةِ عليهم ، وسطَ تهليلِ التونسيينَ وزغاريدِ التونسياتِ ، وأقتيدَت قياداتهم إلى المحاكم بتهمِ الإرهابِ وتسفيرِ الإرهابيين إلى سوريا عن طريقِ حليفتهم تركيا .
وفي سوريا وبالرغم من هولِ المآسي والخسائر والتدمير التي سبّبها الإرهابيونَ ورأس حربتهم الإخوان المسلمون وبدعمٍ منقطع النظير من حلفائهم الأتراك والقطريين فإن أردوغان لم يصلِّ في الجامعِ الأمويّ كما كانَ يشتهي .
فإذا كان أردوغان وبعد بدء ما سمي بالربيع العربي يرى في الإخوان المسلمين وسيلةً لتعزيزِ دورِ تركيا في الشرقِ الأوسط والدول الإسلامية، ولحشدِ الدعمِ حولَ نظامهِ لكنّ هذا الخطاب لم يعد يمتلك نفس القيمة بعد التحولاتِ الدراماتيكيّةِ في وضعيةِ الإخوان في المنطقة .كما أنّ ظروفاً داخلية على علاقةً بالتحولاتِ الاقتصادية والسياسية الجاريةِ في تركيا نفسها قد خذلت مشروعَ أردوغان التوسعي ، فقد كان أردوغان قبلَ ما سمي بالربيع العربي مباشرة في ذروةِ سلطتهِ من نواحٍ كثيرةٍ ،فقد تمّ تحييدُ ” الدولة العميقة ” العسكرية والقضائية ، التي أزاحت سابقاً الحكومات ذات الميول الإسلامية في التاريخ التركي ، من خلال عمليات التطهير والمحاكمات ، لكن أردوغان بدأ بالتراجعِ في شعبيته ، ارتباطاً بمحاولاته تكريس حكمِ الفرد ، وجمعِ السلطاتِ في قبضتهِ ، الأمرُ الذي أثارَ حفيظةَ العديدِ من القوى السياسية المعارضة ، يضافُ إلى ذلك التدنّي المريع في المؤشرات الاقتصادية ،حيثُ ارتفاع معدلات التضخم وازدياد البطالة بنسبٍ غيرِ مسبوقةٍ ، وهبوطٍ حاد في قيمةِ الليرةِ التركية ، والمضي في صفر علاقات مع دول الجوار بدلاً من شعار صفر مشاكل ، وعدم تقديم أي حلولٍ للقضيةِ الكردية الملتهبةِ منذ العام ١٩٨٤ والتي تسببت حتى الآن في مقتل ما يزيد عن ٤٥ ألف شخص وما شكلتهُ من عبءٍ اقتصاديّ أيضاً على الدولةِ التركية ، مع وجودِ معارضةٍ سياسيةٍ قويةٍ في تركيا .
كلّ ذلك حفّزت خصوم أردوغان ضدّهُ ، وأرغمتهُ على التفاوض مع نظراءِ تركيا الاقليميين الذين دخلت معهم في اشتباكٍ لسنواتٍ طويلةٍ ، مثل مصر والإمارات المتحدة ، لإذابةِ بعضِ الجليدِ الذي أحاطَ بعلاقتهم .
إن هزيمةَ الإخوان المسلمين كقوّةٍ سياسيّةٍ في المنطقة شكّلت انتكاسةً لطموحاتِ أردوغان السابقةِ والمتمثلةِ في قيادةِ المنطقة العربية .وقد تمثلت هذه الاستدارة الأردوغانية بالسعي لتطبيع العلاقات مع هذه الدول ، كما زادت تركيا من تصريحاتها المغلفة بشيءٍ من المرونةِ تجاه سوريا ، حيثُ عبرت عن استعدادها للقاء قمّةٍ بينَ رؤساءِ الدولتين ، لكنّ سوريا ربطت أي لقاءٍ من هذا النوع ، بخروجِ القواتِ التركية المحتلةِ من الأراضي السورية .
وفي هذا السياق أتت أوامرُ المسؤولينَ الأتراك لإخوان مصر الموجودين في تركيا وقنواتهم الإعلامية التابعةِ للذراع المصري للجماعة بالتخفيفِ من حدّةِ انتقاداتها للنظامِ المصريّ ، كما جرى التضييق على قياداتٍ إخوانيةٍ أخرى في تركيا .
وهذا يكشف عن عمقِ المأزقِ والأزمةِ التي عصفت وتعصفُ بالمشروعِ الإخواني في المنطقة ، وإخفاقاته المتسلسلةِ ، هذا المشروع الذي كانَ حلم أردوغان قبلَ سنوات ليست ببعيدة .