(تركيا في الاستراتيجية الإمبريالية)

✍: خورشيد أحمد

———————————————————————-

الحلقة السادسة.

: المجازرُ التركيّة بحقّ القوميّات .

يقدّمُ لنا التاريخ معلومةً بالغةَ الدلالةِ ، فمن أصلِ ٣٦ سلطاناً عثمانيّاً ماتَ منهم ثلاثةٌ فقط ميتةً طبيعيّةً ، أمّأ الباقي فقد ماتَ خنقاً أو حرقاً أو قتلاً .

هذه الحقيقةُ التاريخيّةُ تلخّصُ سيرةَ حكامٍ وسلاطينَ قتلةٍ وصلوا إلى كرسيّ السلطنةِ على جثثِ الآباءِ والأخوةِ .

تاريخٌ من القتلِ والنهبِ والخطفِ والاغتصابِ والسفاحِ والخصي والخوزقةِ وقلعِ الأعينِ وقطعِ الرؤوسِ .

ومع القوميّاتِ الأخرى غيرِ التركيّةِ تمتزجُ شهوةُ السلطةِ هذهِ مع حالةٍ عنصريّةٍ مقيتةٍ ، وذهنيّةٍ طورانيّةٍ تتأسّسُ على تفضيلِ العنصرِ التركيّ ، مانحةً له شرعيّةَ التمدّدِ والتسيّدِ على حسابِ القوميّاتِ الأخرى .

فالتاريخُ يفصحُ عن خزائنَ من الآلامِ والويلاتِ ما ينوءُ بحملهِ ، تلكَ الويلاتُ التي وقعت على الشعوبِ التي خضعت للإحتلالِ العثماني وللقوميّاتِ التي ما زالت تحتَ حكمِ النظامِ التركيّ ، منذُ صعودِ ” تركيا الفتاة ” وحتّى نظام أردوغان الفاشيّ الحاليّ .

فإذا كانَ التركمان وهم المنحدرونَ من نفسِ أصولِ القبائلِ التركية، ويدينونَ بالإسلامِ ، قد رأوا في قوّةِ الأتراكِ قوّةً للدين الإسلامي ، وبرّروا خضوعهم القومي بالواجبِ الديني ، إلا أنّ الأتراكَ أرادوا إخضاعَ القبائلِ التركمانيّةِ بالقوّةِ ، لإرهابِ القوميّاتِ الأخرى ، التي رفضت سياسةَ التتريكِ ، فتركتها أمام خيارين لا ثالثَ لهما : إما الانسحابُ إلى الجبالِ وإما الفناءُ إذا ما رفضتِ الخضوعَ المطلقَ للدولةِ التركيٍةِ ، وتخليها عن قوميتها .

وفي إطارِ هذا التوجّهِ تعرّضتِ الأقوامُ التركمانيّةُ لأشرسِ الهجماتِ من السلاطينِ العثمانيينَ ، ممّا دفعَ بقسمٍ كبيرٍ منهم إلى الهربِ ، حيثُ وصلَ مئاتُ الألوفِ منهم إلى إيرانَ التي كانت في صراعٍ مع العثمانيينَ ، ولعلّ مقطعَ الشعرِ الذي كانَ يردّده التركمانُ في ذلك الوقتِ :

” افتحي أيّتها الأبواب لنذهبَ إلى الشاهِ ” هو أفضلُ الأمثلةِ على ما كان يعانيهِ التركمان .

أما العائلاتُ التي فضّلتِ الخضوعَ للدولةِ العثمانية فقد طبقت عليها سياسةُ التتريكِ ، وانخرطت في الحياةِ التركيّةِ حتى ذابت نهائيّاً ، فاقدةً ميزاتها القومية، وقد استخدموا من قبلِ السلاطينِ العثمانيينَ كقوّةٍ ضاربةٍ في غزواتِ العثمانيينَ ، حيثُ لعبَ التركمان دوراً بارزاً في جميعِ الأماكنِ التي وصلت إليها الغزواتُ العثمانيّةُ ، خاصةً المناطق المسيحيّة ، وتحديداً في منطقةِ البلقان ، نتيجةَ قيامهم بأبشعِ المجازرِ والإعتداءاتِ ضدّ المواطنين ، وكذلك لعبَ التركمان دوراً بارزاً في حملاتِ إرغامِ هذه القوميّاتِ على إعتناقِ الإسلامِ ، من خلالِ انخراطهم الكثيفِ في مجتمعاتِ تلك الأقوام .

وبعدَ قيامِ الجمهورية التركيّةِ حاولَ الأتراكُ الاستفادةَ من وضعِ التركمانِ وانتشارهم في بعضِ المناطقِ ، منها العراق وبلغاريا كأقليّةٍ قوميّةٍ تابعةٍ لتركيا في تلكَ الدول انطلاقاً من سياستهم الطورانيّةِ .

وحاولت تركيا مراراً إثارةَ النعرةِ التركمانيّةِ في هذه البلدان ، فكانت إحدى ثمراتها المُرّةِ تلكَ الأحداث التي وقعت في صيفِ عام ١٩٥٩ في العراق راحَ ضحيّتها الآلاف منَ الطرفينِ ، وما زالت تركيا تثيرُ مثلَ هذهِ النعراتِ حتّى اليومَ وخاصةً في كركوك العراقيّة .

القومية الثانية التي ذاقت الويلات من الأتراك وتعرّضت لمجازرَ لم يشهد التاريخُ لها مثيلاً هي القومية الأرمنية ، والشعب الأرمني يُعدّ من أقدمِ الشعوبِ التي قطنت منطقة الشرق الأوسط ، ومن أكثرها عراقةً وحضارةً ، وهو تاريخيّاً موجودٌ على أرضهِ منذُ ٢٥٠٠ سنة قبل الميلاد .

وفي عام ٣٠١ م تأسّستِ الكنيسةُ الأرمنية ، وبعد هذا التاريخ بمئةِ عام أوجدَ الأرمنُ أبجديّتهم الخاصةِ بهم كشعب ، حيثُ لعبت دوراً تاريخيّاً هاماً ، وميّزتِ القوميّةَ الأرمنيّةَ عنِ الأقوامِ الأخرى .

وبحلولِ العام ١٥٢٠ م بسط السلطان العثماني سليم نفوذهُ على معظمِ مناطقِ أرمينيا ، وعلى مدى ثلاثةِ قرونٍ كانت أرمينيا بؤرةً للتوتّرِ ومسرحاً للصداماتِ والصراعاتِ ، والحروبِ التوسّعيّةِ ( الحرب التركية – الفارسية ، والروسية- الفارسية ، والروسية- التركية ) والتي جلبت للشعبِ الأرمني الدمارَ والخرابَ ، خصوصاً تلك الحروب التي جرت بين الدولتينِ : الصفوية والعثمانيةِ .

وفي عام ١٦٣٩ قسمت أرمينيا نهائياً حيثُ أُلحقَ الجزءُ الشرقي منها بالدولةِ الفارسية الصفوية ليؤولَ هذا الجزء ويدخلَ في حوزةِ روسيا القيصرية بموجبِ معاهدةِ ( تركمان جاي ) التي عقدت عام ١٨٢٨ نتيجةَ هزيمةَ الفرسِ في حروبهم مع الروس خلالَ الأعوام ( ١٨٢٦ – ١٨٢٨ ) .

أمّأ القسمُ الثاني من الأراضي والشعب الأرمني فقد بقي تحت نير الحكمِ العثماني ، الذي عمل على إستمالةِ الأرمنِ للإستفادةِ من مواهبهم وخبراتهم وكسبِ ولائهم ، وما أن استقرّت أمورُ الدولةِ العثمانيةِ حتّى انقلبَ سلاطينها على الأرمنِ ، ممارسينَ سياسةَ التتريكِ بحقّهم ، التي عانت من صعوباتٍ نظراً للفارقِ الحضاريّ بينَ القوميتينِ الأرمنية والتركية .

وقد أبدى الارمنُ تمسّكهم الشديد بقوميّتهم ودينهم ، فمارسَ العثمانيون بحقّهم سياسةَ القتلِ والتنكيلِ ، وكردّةِ فعلٍ قامت عدّة حركاتٍ شعبيةٍ عبّرت عن إصرارِ الأرمنِ على رفضِ كافةِ اشكالِ الهيمنةِ والاستعبادِ ، وتمثّلت بثوراتٍ وانتفاضاتٍ في الأعوام ( ١٨٦٢ – ١٨٧٨ – ١٨٨٤ – ١٨٨٦ ) إلا أنّ كلّ هذهِ الثوراتِ تمّ إخمادها وقمعها بقسوةٍ شديدةٍ .

ولعلّ أفظعَ المجازرِ الدمويّةِ التي مورست ضدّ الارمنِ كانت في عهدِ السلطان عبد الحميد الثاني ، الذي أطلقَ يدَ الكتائبِ الحميديّةِ تارةً ، والقواتِ العسكرية تارةً أخرى ، وأزلامَ الولاةِ تارةً ثالثةً ، وعمدَ إلى إثارةِ النعراتِ الدينية والقومية بينَ الأكراد والأرمن تارةً رابعةً ، كحوادثِ منطقةِ ساسون الداميةِ والتي راحَ ضحيتها خلال الأعوام ١٨٩٤ – ١٨٩٥ ما يقارب ٣٠٠٠٠٠ مواطن أرمني .

ولهذا كان الأرمن من أكثرِ الشعوبِ استبشاراً وارتياحاً بعدَ عزلِ السلطان عبد الحميد ، واستقبلوا حركة

” تركيا الفتاة ” بارتياحٍ كبيرٍ وشكّلوا جمعية ” الإخاء الأرمني التركي ” عام ١٩٠٨

غير أنّ إنقلاب الاتحاديينَ على شعاراتهم في ” العدل والحرية والمساواة ” وكشفهم عن نواياهم العنصرية تجاه الشعوب والقوميات غير التركية قد خيّبَ آمالَ الأرمن الذين كانوا أوّلَ الشعوب التي استهدفتها سياسة الاتحاديين الاجراميّةَ والوحشيّةَ والهمجيّةَ ، التي لا سقفَ لها ولا حدود .

فارتكبَ الاتحاديونَ مذبحةً جديدةً في نيسان عام ١٩٠٩ ذهبَ ضحيتها ٣٠ ألف أرمني .

وفي عام ١٩١٥ ارتكبَ الاتحاديونَ أفظعَ مجزرةٍ عرفها التاريخ بحقّ الشعبِ الأرمني ، ففي ٢٤ نيسان من هذا العام أُلقيَ القبضُ في إستانبول على حوالي ٢٥٠ شخصيّة أرمنية ، والذينَ أعتقلوا كانوا صحفيين ومحامين ورجال دين وكتاباً ورجال أعمال، دوهمت منازلهم وأبعدوا عنِ العاصمةِ ، ثمّ تمّ إعدامهم دونَ محاكمة ، وفي اليومِ التالي ألقيَ القبضُ على ٨٠٠ أرمني تمّت تصفيتهم جميعاً وهم في طريقهم إلى الأناضول ، وهكذا توالت حملاتُ الاعتقال والإبادة في إستانبول حيثُ شملت جميعَ المواطنينَ الأرمن الذينَ كانَ يبلغُ تعدادهم آنذاك ١٥٠ ألف أرمني .

وفي الشهرِ التالي ١٥ أيار بدأت حملاتُ التهجيرِ والإبادةِ الجماعية في عددٍ من الولايات ( كارين – طرابزون – سيواس – خاربيرد – دياربكر ) وغيرها من الولايات الواقعةِ شرق الأناضول .

وتواصلت هذه المجازر الجماعية لتخلّفَ في النهايةِ مليوناً ونصفَ المليون قتيل من ابناءِ هذا الشعب ، من الرجالِ والنساءِ والشيوخِ والأطفالِ الذينَ كانَ يتمّ ذبحهم أمامَ عيونِ أمهاتهم ، والنساء الحوامل اللواتي كنّ يجري بقرُ بطونهنّ ، والصغار الرضّع بحقدٍ أسودَ دفين ، ورافقت حملات الإبادةِ الجماعية هذهِ عمليّاتُ تهجيرٍ وتشريدٍ مكثّفة خارجَ الوطنِ إلى العمقِ التركيّ ، بهدفِ اقتلاعِ جذورِ الشعبِ الأرمنيّ .

وامعاناً في جريمةِ التقتيلِ والذبحِ والمجازرِ ضدّ هذا الشعبِ أرسلَ طلعت باشا بصفتهِ وزيراً للداخليّةِ – والذي إقترنَ اسمهُ بالمذابحِ الأرمنيّةِ – برقيّةً عاجلةً وجّهها بتاريخ ١٥ أيلول ١٩١٥ إلى والي حلبَ شدّدَ فيها على وجوبِ إبادةِ العنصرِ الأرمنيّ الذي يسعى منذُ قرونٍ إلى تقويضِ أسسِ الإمبراطورية العثمانية ، وأردفَ كذلكَ : نطلبُ منكم ان تعملوا جاهدينَ للقضاءِ عليهم ولمحوِ الاسمِ الأرمني بالذات .

لقد قسّمتِ القبادةُ الاتحاديةُ عمليات إبادة الأرمن إلى ثلاثةِ مراحلَ :

المرحلةُ الأولى:

في ٢ / ١/١٩١٥ إلى ١٨ / ٤ / ١٩١٥ وتمّ فيها القضاء على جميعِ المفكرين البارزين والمسؤولين الوطنيين والأطباء والمحامين والفنانين من الأرمن .

أمّأ المرحلةُ الثانيةُ :

فبدأت من ٢١ / ٤ / ١٩١٥ ولغاية ١٩ / ٥ / ١٩١٥ حيثُ صدرَ قرارٌ بتجريدِ الأرمنِ

جميعاً من الخدمةِ الإلزاميّةِ ، ومن السلاحِ ، ووضعهم في تشكيلاتٍ جديدةٍ ضمنَ فرقٍ عماليّةٍ شاقةٍ ومحهدةٍ مثلَ الحفرياتِ وانشاءِ الطرقِ الجبليّةِ وبناءِ الجسورِ والحمالين وأعمالَ النظافةِ ، وكانوا يطلقونَ النارَ على كلّ من يتقاعسَ تعباً أو مرضاً ، أو يقومونَ بحرقهم ، وهم أحياءٌ وبشكلٍ جماعيّ .

المرحلةُ الثالثةُ : بدأت من ٦ / ٦ / ١٩١٥ إلى ٦ / ٥ /١٩١٦ واستمرّت حوالي عام تحوّلت فيها المناطقُ الأرمنيةُ إلى خرابٍ ، وقد وجّهت السلطاتُ الدعوةَ لجميع الأرمنِ الذينَ تتراوحُ أعمارهم بينَ ١٥ – ٧٠ سنة مراجعةَ مقرّاتِ الحكومةِ ، ثمّ زُجّوا في السجونِ ليبدأ ترحيلهم بعدَ يومينِ أو ثلاثة ، أمّا القاطنونَ في مناطقِ البحرِ الاسودِ فقد هجّروهم بواسطةِ السفنِ ليموتوا غرقاً وخاصةً في مناطقِ ” ريزا ” و” طرابزون ” و ” كيراسون ” و ” أوزود ” أمّأ من تبقّى من الأرمنِ من الأطفالِ والنساءِ فقد تعرّضوا بعدَ أسبوعينِ للتهجيرِ الجماعيّ إلى ناحيةِ الجنوبِ نحو الصحراء .

في شهرِ شباط عام ١٩١٦ قامَ جودت بك بنفي حوالي ٥٠٠ ألف من الأرمن خلالَ أربعةِ أشهر وقتلهم بوسائلَ لا تعرفُ الرحمةَ ، منها على سبيلِ المثالِ أنّهُ قامَ بنعلِ أرجلِ الأرمنِ كما تُنعلُ أرجلُ الخيولِ ، كما ساقتِ الحكومةُ نصفَ مليون أرمني من رأسِ العين إلى دير الزور ، تمّ توجيهُ ٢٠٠ ألف منهم نحو الموصل ، وماتوا جميعاً على الطريق من قساوةِ الصحراء والجوعِ أو قُتلوا .

وبهذا الصدد صرّحَ طلعت باشا مفتخراً بأنّهُ ” تمكّنَ من تنفيذِ ما عجزَ عنهُ السلطان عبد الحميد خلالَ ثلاثينَ عاماً من تنفيذهِ خلالَ ثلاثةِ أشهر ” .

كما صرّحَ طلعت باشا للسفير الألمانيّ في ٣١ آب من عام ١٩١٥ قائلاً : ” لم يعد ثمّةَ وجود للقضيّة الأرمنيةِ ” .

القومية الأخرى التي عانت وما زالت من الاضطهاد الشوفيني التركي هي القومية الكردية ، التي وضعَ السلاطينُ العثمانيون نصبَ أعينهم السيطرةَ عليها ، وإخضاعها لسياستهم الداخليةِ والخارجيةِ ، وقد لعبَ العاملُ الدينيّ دوراً كبيراً في قبولِ الأكرادِ للدولةِ العثمانية ، على أنها الحامي لهم باعتبارها الدولةَ الإسلامية الأقوى ، وكانوا يرونَ أنّ القتالَ إلى جانبِ العثمانيينَ يرسّخُ دعائمَ إمبراطورية إسلاميةٍ عظمى ، ترفعُ شأنَ المسلمين ، وهو ما اعتبروهُ واجباً دينيّاً مقدّساً ، وقد منحَ السلاطينُ العثمانيون في بعضِ عهودِ السلطنةِ الحكمَ الذاتيّ للمناطقِ الكرديّةِ الأمرُ الذي أثارَ حميّةَ وتعاطفَ الأكرادِ الذينَ اندفعوا للتطوّعِ في صفوفِ القوّاتِ العثمانيّةِ ، فكانَ زعماءُ العشائرِ الكرديّةِ يتنافسونَ في تجنيدِ الأعدادِ الكبيرةِ من رجالِ عشائرهم الكردية للمشاركة في غزوات القوات العثمانية .

وهكذا وجدنا أنّ الدولةَ العثمانية قد حقّقت مآربها عن طريقِ إثارةِ الحميّةِ الدينيّةِ عندَ الأكراد ، واستمالةِ زعمائهم لتجنيدهم كمحاربينَ أشدّاءَ في الجيوشِ العثمانية .

وإن كانتِ الإمبراطورية العثمانية قد منحت الحكمَ الذاتيّ لعملائها من البكواتِ الأكرادِ إلا أنّها ضيّقت إطارَ هذا الحكم باستمرار لتصلَ إلى درجةٍ خطيرةٍ جدّاً ، بحيث ولدت فئة كردية عميلة لها ، لعبت أدواراً لا يستهانُ بها في سحقِ مقاومةِ الشعوبِ المجاورةِ ، وفي عمليّاتِ الغزوِ الهادفةِ إلى قهرِ الشعوبِ .

وعندما تمّ ربطُ الجنودِ الأكرادِ جيّداً بالمؤسسةِ العسكرية العثمانية ولم يعودوا خاصعينَ لمشيئةِ زعماءِ العشائرِ بل لقادةِ وحداتهم شرعتِ الدولةُ العثمانيةُ في سياسةِ التتريكِ ضدّ الشعبِ الكرديّ ، فألغت نظامَ الحكمِ الذاتيّ للمناطقِ ، وعيّنت ولاةً أتراكاً محلّ الولاةِ الأكرادِ ، وفرضتِ اللغةَ التركية في المدارسِ ومعاملاتِ الدولةِ ، ومنعت كلّ ما يساهمُ في إظهارِ مقوّماتِ القوميّةِ الكرديةِ .

لقد وقفت جغرافيّةُ كردستان وجبالها الوعرة الشاهقة ومقاتلوها الأشدّاءِ عقبةً في وجهِ حملاتِ الأتراكِ في البدايةِ ، إلا أنّ طبيعةَ الحياةِ القبليّةِ قد قدّمت لهم خدمةً تاريخيّةً لا تُقَدّرُ بثمن ، فكانَ من جرّاءِ الشقاقِ الداخليّ والتحاسدِ القوميّ الكرديّ أن قضتِ الدولةُ العثمانيةُ بالقواتِ والجنودِ الأكرادِ أنفسهم على الإنتفاضاتِ الكرديّةِ ، مثلَ انتفاضة الأمير بدرخان الشهيرةِ .

لقد استطاعَ العثمانيون بالحديدِ والنارِ سحقَ الانتفاضاتِ الكردية التاليةِ :

١ – انتفاضة عبدالرحمن باشا البابان ١٧٨٨ م

٢ – انتفاضة محمد باشا الراوندوزي ١٨٢٦ م

٣ – انتفاضة إسماعيل باشا ١٨٣٥ م

٤ – انتفاضة بدرخان باشا ( ١٨١٢ – ١٨٤٩ ) م

٥ – انتفاضة البدرخانيين بعد الأمير بدرخان : ( عثمان بدرخان ١٨٧٩ – أمين عالي بك ، ومدحت بك أنجال الأمير بدرخان الكبير ) ١٨٨٩ م

٦ – انتفاضة عزالدين شير البوتاني ١٨٦٤ م

٧ – انتفاضة الشيخ عبيد الله النهري ١٨٨٠ – ١٨٨٣ م

٨ – انتفاضة ابراهيم باشا المللي ١٩٠٨ م

٩ – ثورة بدليس بزعامة الشيخ سليم قبيلَ الحربِ العالميّةِ الأولى بفترةٍ وجيزةٍ .

وقد اعتمدَ العثمانيون في قمعِ هذه الانتفاضاتِ الأساليبَ الوحشيّةَ من مجازرَ وقتل وحرقٍ للمدنِ والقرى ، وسبيَ النساءِ واعدامات في الساحات ِ العامةِ لرجالِ الانتفاضاتِ البارزينَ .

فهل اختلفتِ الاتجاهاتُ التي حكمتِ الجمهورية التركية من حيث الجوهر في نظرتها إلى قضيّةِ الشعبِ الكرديّ ؟؟؟

إنّ الوقوفَ على المجازرِ التي حدثت في عهدِ الجمهورية التركية يؤكّدُ استمرارَ النهجِ الدمويّ لدى الأتراك في التعاملِ مع القضايا القومية للشعوبِ التي رزحت تحتَ الاحتلالِ العثماني ثمّ لاحقاً تحتَ حكمِ الجمهورية التركية .

ولعلّ هذه الصورةَ الفظيعةَ من المجازرِ تبرزُ بشكلٍ أكثرَ جلاءً في الثوراتِ والانتفاضاتِ والأحداثِ الدمويّةِ التالية :

١ – ثورة كوجكيري ١٩٢٠ م :

اندلعت هذه الثورةُ في ديرسم وفي منطقةٍ تسكنها قبيلة القزلباش ، خطّطَ لهذه الثورة جمعيّة ” تعالي كردستان ” وقد ساند الكثيرون من زعماء القبائل الكردية في منطقة ديرسم القوات التركية ، التي تمكّنت من خلالِ استخدامِ القوّةِ من إخمادِ هذه الثورة .

٢ – ثورة الشيخ سعيد بيران ١٩٢٥ م :

تحتلّ هذه الثورة مكانةً هامةً بينَ الثوراتِ الكرديةِ في كردستان تركيا .

حيثُ تُعتبَر أول ثورة تندلعُ على نطاقٍ واسعٍ ، في مقاطعةِ ديار بكر لتصلَ إلى مدينةِ ماردين ، نظّمت الجمعية الكردية المستقلة هذه الثورة ، بقيادةِ رجل الدين البارز الشيخ سعيد بيران ، وقد جاءت ردّاً على القمعِ التركيّ ضدّ الشعبِ الكردي .

اندلعت هذه الثورة قبل موعدها المقرّر ، على إثرِ دخولِ قوّةٍ تركيةٍ قريةَ بيران معقل الشيخ سعيد ، فظنّ أخوهُ أنها جاءت لإعتقال الشيخ سعيد، وهكذا اندلعت الثورة قبلَ موعدها المقرّر في ٢١ آذار ١٩٢٥ بعدّةِ أيام وكان أكثر القوّادِ المكلفين بتنظيم القوات المسلّحة الكرديّة وبينهم خالد بك الجبري خارجَ مناطقِ الثورةِ ، فاعتقلتهم الحكومةُ التركية فوراً وأعدمتهم بدونِ محاكمة . وقد استعملت القواتُ التركيةُ كافةَ الأسلحةِ الفتّاكةِ ، إلى أن قضت على الثورةِ بصورةٍ وحشيّة في ٢٧ حزيران ١٩٢٥ حيثُ أعدمت ٤٧ وطنيّاً كرديّاً بعدَ محاكمةٍ صوريّةٍ وكانَ بينهم قائد الثورة الشيخ سعيد والجنرال اسماعيل وفخري بك ، كما حكمت بالأحكام الجائرةِ على ٩١ عضواً من قادةِ جمعيّةِ ” تعالي كردستان ” بينهم رئيس الجمعية الشهيد عبد القادر النهري والدكتور فؤاد والمحامي محمد توفيق والمحامي حاجي آختي ، ونُفذَ حكمُ الإعدام بحقّهم جميعاً في مدينةِ ديار بكر ، أمام بابِ الجامعِ الكبيرِ ، وفي دفعةٍ أخرى من كواكبِ الشهداءِ وعددهم ٩٣ كرديّاً في نفس المكان وذلك في ٢٨ حزيران ١٩٢٥ ،

لقد بلغتِ القسوة مع الثورةِ أشدّها ، ففي حين كان الترك يسوقونَ الجيوشَ من كلّ الجهاتِ إلى كردستان ، لم يكتفوا بسوقِ القواتِ التركية من جهاتِ سيواس وأرضروم وسواحلِ البحرِ الأسود ، بل أرسلوا حملةً كبيرةًمن ٢٥٠٠٠ مقاتل بالسكّة الحديدية السوريّةِ عن طريقِ حلب ، وذلك بتواطؤٍ ومساعدة فرنسيّة واضحة لإخمادِ الثورة .

٣ – مجزرة علقمشي ١٩٢٦ :

تلخّصُ هذه المجزرة وحشيّةَ الأتراكِ ضدّ الشعبِ الكرديّ ، فبعدَ أن تمّ إخماد ثورة الشيخ سعيد بيران ، بدأت القوات التركية بالانتقامِ من الأكرادِ لمشاركتهم ثورةَ الشيخ ، حيثُ كانَ الأهالي قد هاجموا إبانَ الثورةِ مخفراً للجندرمةِ التركية بالقربِ من قريةِ علقمشي ، وجرّدوا الجنود الأتراك من أسلحتهم ، وملابسهم ، الأمر الذي أثارَ حفيظةَ الدولة التركية ، التي روّجت لإصدارِ عفوٍ عامٍ ، وطلبت من الرجال تسليمَ أنفسهم مع أسلحتهم ، ولكن عندما اجتمع الأهالي تمّ تنفيذ مجزرة رهيبة بحقّ الجميع ، حيثُ أحرقَ جنودُ الجيشِ التركيّ في قريةِ علقمشي أكثرَ من ألفِ شخص من أهالي القريةِ وبعضِ القرى المجاورةِ من الأطفالِ والرجالِ والنساء .

وقد استطاعَ ١٧ شخصاً فقط الفرارَ من تلك المجزرة ودخلوا الأراضي السورية إلى قريةِ عتبة وعلي بدران .

٤ – ثورةُ آرارات ( آغري ) :

قادَ هذهِ الثورةَ اللواء إحسان نوري باشا وهي كسابقاتها لم تحصدْ سوى الفشل ، حيثُ قصفتِ القوّات الجويّة التركية مواقع كردية حولَ جبل آرارات من كافةِ الاتجاهات ، وقد تسبّبَ القصف الذي قامت به ١٠٠ طائرة حربية تركية ، مع زحفِ أكثر من ٦٦ ألف جندي إلى تدمير عدد من الحصونِ الكرديةِ ، وحرقِ قرى بكاملها ، وقد أدّت هذه القسوة والوحشية إلى هزيمة الثورة في عام ١٩٣١ لتستمرّ السيطرةُ التركية على المنطقة .

٥ – ثورة ديرسم ١٩٣٧ – ١٩٣٨ :

ثارت منطقة ديرسم الكرديّة المعروفة حاليّاً بتونجلي ضدّ سياسات الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك ، حيثُ كانت قبائل ديرسم ومنذ قيام جمهوريّة تركيا وانهيار الدولة العثمانية ، تعاني من تهميشٍ واضح ، ودفع ضرائب مرتفعة ، ومورست ضدّهم سياسة التتريك ، بهدف طمسِ هويّتهم ودمجهم بالقوّة بالمجتمع التركي في إطارِ ما سمي َ بقانونِ التوطين الذي أصدرتهُ السلطاتُ التركية عام ١٩٣٤ ، وقد قمع الأتراك هذه الثورة بالحديدِ والنارِ ، وهو ما أسفرَ عن حمّامِ دمٍ ، انتهى بمقتلِ وتهجيرِ عشراتِ آلافِ الأكرادِ .

وفي خضمّ هذه الثورة حلّ قائدها سيّد رضا وأحدُ أبرزِ رجالاتها يوم ١٠ أيلول ١٩٣٧ برفقة عددٍ من رجالِ القبائلِ بمقرّ القيادةِ التركيّةِ بأرزينجان لمناقشةِ بنودِ إعادةِ السلام لديرسم ، وإنهاءِ العمليّة العسكرية بها ، وعلى الرغم من تسليمهِ لنفسهِ للمسؤولينَ الأتراك هناك وامتثاله لأوامرهم ، وحصوله عل وعودٍ بعدمِ المساسِ به وبمرافقيهِ ، اعتقلتِ السلطاتُ أفرادَ هذا الوفدِ الكردي ووجهت لهم تهماً خطيرةً ، كالخيانةِ والتحريضِ على التمرّد ، والتعاملِ مع أطرافٍ أجنبية وعلى رأسها بريطانيا .

يؤكدُ المؤرخون أنّ العددَ الإجمالي للضحايا بلغت عشرات الآلاف ، أما أردوغان فقد اعترف مؤخراً بمقتلِ ١٤ ألف كردي .

كما تمّ إجلاءُ نحو ١١٠٠٠ شخصاً قسراً من ديرسم ، وقد توصّلَ المؤتمرُ العام ٢٠٠٨ الذي نظّمهُ نادي القلم الكردي إلى الاستنتاج بأن تركيا إرتكبت أعمالَ إبادةٍ جماعيّةٍ ، كما أنّ الكثيرينَ من الأتراك اليساريينَ يعتبرونَ الأحداثَ التي وقعت في ديرسم إبادةً جماعيّةً ، وأبرزُ دعاةِ هذا الرأي هو البروفيسور إسماعيل بيشكجي صاحب كتاب ” كردستان مستعمرة دوليّة ” .

وقد تحدّثَ القنصل البريطاني في طرابزون والمكتب الدبلوماسي القريبِ من ديرسم حولَ العنفِ والوحشيةِ التي مارسها الأتراكُ بحقّ الكردِ بالمقارنةِ بالمذابحِ الأرمنية في ١٩١٥ وكتب : ” آلافُ الأكراد ومنهم نساءٌ وأطفالٌ ذُبحوا ، وأُلقيَ بالأطفالِ في نهرِ الفرات ، بينما وقعَ آلافُ الآخرينَ في مناطقَ أقلّ عداءً ، فحُرموا من الماشيةِ ومتعلقاتهم ، ثمّ رُحلوا إلى مقاطعاتٍ في وسطِ الأناضول ” .

لقد أقدمتِ الحكومةُ التركيّةُ بعد العام ١٩٣٧ بعد قمعِ آخرِ الثوراتِ الكرديةِ على فرضِ الأحكامِ العرفية على مناطقِ كردستان تركيا ، كما شجّعت استقرارَ ألبانِ كوسوفو والآشوريينَ في المناطق الكردية ، بعدَ تدميرِ القرى والترحيلِ الجماعيّ ، لتغييرِ النسيجِ الإثنيّ للمنطقة ، وتذهبُ بعضُ التقديرات أنّ مجموعَ ما تمّ ترحيلهُ وذبحهُ بين أعوام ١٩٢٥ – ١٩٣٨ يبلغُ ١،٥ مليون كردي .

الجديرُ بالذكرِ أنّ الأتراكَ منعوا الأجانبَ من زيارةِ المنطقةِ الواقعةِ شرقَ الفراتِ بالكاملِ حتّى عام ١٩٦٥ للحفاظِ على سمعةِ تركيا الدوليّةِ ، كما أنّ المنطقةَ الكرديةَ وحتى عام ١٩٥٠ ظلّت تحتَ الحصارِ العسكريّ ، وحُرمتِ اللغةُ الكردية ، وأُزيلت كلمات مثل ” الأكراد ” و ” كردستان ” من القواميسِ وكتبِ التاريخِ ، وأشيرَ للأكرادِ في المؤسسات الرسميةِ ” بأتراكِ الجبال ” .

ومنذُ العام ١٩٨٤ يخوضُ حزب العمال الكردستاني حربَ عصاباتٍ ضدّ القواتِ التركية ولم تقدّم السلطاتُ التركية حلولاً للقضيةِ الكردية فيها ، الأمرُ الذي تسببَ في مقتلِ أكثرَ من ٤٥ ألفاً حتّى الآن . وتهجيرِ ما يقاربُ ٥ مليون كردي إلى المدنِ التركية الكبيرة كاستانبول وأنقرة وأزمير ، وهدمِ وحرقِ أكثرَ من ثلاثةِ آلافٍ من القرى الكرديةِ ، وسجنِ القائد الكرديّ عبدالله أوجلان منذ العام ١٩٩٩ ، وما زال حزبُ العدالةِ والتنميةِ ماضياً في عدوانيتهِ تجاهَ القضيةِ الكردية .

وبعدَ كلّ ما تقدّم هل نستطيع أن نردّدَ المثلَ الأرمنيّ الذي يقول : إذا لم يجد التركيُّ أحداً ليقتلهُ ، يقتلُ أباه .

أم المثلَ اليونانيّ الذي يلخّصُ النزعةَ الدمويّة لدى الأتراك : إذا تحدّثَ التركيّ عن السلامِ فاعلم أنّ الحربَ قادمة .

أم ما قالهُ الشاعرُ والروائيّ الفرنسيُ الكبير فيكتو هيگو : من هنا مرّ الأتراكُ ، فأصبحَ كلّ شيءٍ خراب .

———————-

يتبع ….

 

اترك تعليقاً

Scroll to Top