🌀 مقال منشور في صحيفة ( صوت الشعب ) عدد/396/
(جوزيه سراماغو ..أعظم الروائيين الموجودين على قيد الحياة..وهو من أكثر المثقفين المؤثرين في اساسيات الثقافة الغربية!!! ) هذا ما عبر عنه الناقد الأدبي المعروف ( هارولد بلوم )… بينما اعتبر ( جيمس وود ) اللهجة التي يستخدمها ساراماغو في رواياته ..هي لهجة فريدة من نوعها..لأنه حين يروي رواياته فإنم يرويها بلهجة الجاهل والحكيم معا
بعد قرائتي لروايتيه ( قايين) و( الكهف ).. تأكدت أن ما قيل فيه وفي أدبه
ليس من قبيل العبث أو المجاملات .
في رواية الكهف والتي ترجمها بشكل جميل وممتع ( صالح علماني ) والصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتابسلسلة الجوائز..نرى كيف استطاع ساراماغو..ببساطة مدهشة وبعمق أن يصور لنا كيف استطاعت الرأسمالية بألياتها الجبارة والتي لا ترحم تحطيم المهن والصناعات التقليديةوالحرف الصغيرة.. من خلال شخصية الخزاف الذي يقوم بعملية خلق الأواني من الصلصال..واختيار ساراماغو لمهنة الخزف لم تأت عبثا بل أراد أن يعبر لنا من خلالها كيف أن الرأسمالية تهدم كل ماهو جميل و أصيل.. فالصلصال هنا إشارة كما أعتقد للإنسان ذاته الذي تهدمه الرأسمالية.. فالبشري الأول ( أدم )خلقه الاله في المثيولوجيا وأبدعه من الصلصال..!! في روايته هذه …يبدع ساراماغو في وصف وشرح اليات العمل في مهنة الخزافة..حتى بت أشك في أنه أمضى حياته خزافا وليس أديبا أو سياسياو سكرتير تحرير لجريدة الحزب الشيوعي البرتغالي.. تعرفنا الرواية كيف أن الرأسمالية استبدلت الأدوات الخزفيةهذا المنتج الطبيعي بالمنتجات البلا ستيكية…كإشارة للمضار الناتجة عن صناعاتها ،واستبدالها ما هو جميل ..بما هو استهلاكي وسريع وضار..ولتصبح هذه المهن الأصيلة نسيا منسيا. ..رغم محاولتها الدفاع عن ذاتها من خلال التجديد في نوعية واشكال انتاجها..لكنها تفشل فشلا ذريعا ، ما يؤدي بالخزاف أن يدفن نتاجه الذي رفض شراؤه المركز في إحدى المغارات..فربما يجده أحد في المستقبل كما يجدون اليوم الأثار للحضارات المندثرة ..كناية عن اندثار المهن التقليدية، وفي النهاية.. يضطر الخزاف الذي أصبح عاطلا عن العمل لانتقال مع ابنته وزوجها للسكن في المركزحيث يعمل الصهر حارسا فيه، والمركز هنا هو رمز للرأسمالية بتطورها الحالي والمكان الذي لاشيء طبيعي فيه.. عالم اصطناعي مبستر.. ..عالم يثير الملل والضجر انه أشبه بسجن..رغم كل ما يتوافر فيه من وسائل تسلية وترفيه. مما يضطر الخزاف للبحث واستكشاف المكان الذي يعيش ضمنه، وهنا تكون المفاجأة حين يعلم ان الحفريات تحت المركز أدت لاستكشاف كهف مظلم موجود فيه بقايا بشر مقيدي الأيدي والأرجل والأعناق ووجوههم متوجهة أبدا نحو الحائط، والذين لا يرون شيئا سوى الظلال المرتسمة عليه..وهنا يقودنا إلى أسطورة كهف افلاطون الرمزية في المعرفة پأن ما نراه في عالم الواقع ليس إلا ظلال الحقيقة الموجودة فقط في عالم مفارق للعالم المادي والذي يسميه عالم المثل.. ولكن ساراماغو في عمله الأدبي هذا استطاع أن ينقل كهف أفلاطون من مدلولاته المثالية إلى مدلولاته المادية والواقعية ، فكهف ساراماغو هناهو هذا العالم الراسمالي المتوحش الذي يحجب الحقائق عن الناس (( إن الأكاذيب كثيرة..والحقائق غير موجودة.. أو قليلةإلى حد لايتاح لنا الوقت للتفكيرفيها على أنها حقيقة محتملة ص ١٢٢ ))
يلاحظ في الرواية حضور بارز للكلب. والذي هو في حقيقة الأمر أحد أبطالها الأساسيين فلقد اشتغل عليه ساراماغو ببراعة فسبر لنا عالمه الداخلي.. كما يسبر عالم شخوصه البشرية.. ولا أعتقد أنه أختارالكلب مصادفة أو عن عشوائية فالكلب كما هو متعارف عليه.. رمز للوفاء.. بل هو اول حيوان دجنه الانسان..ورافقه في مسيرته الطويلة حتى اليوم..هذا الكلب الذي لايسمح له بدخول المركز.. نجده في نهاية الرواية يجلس في الشاحنة مع الخزاف الذي قرر وابنته وصهره وزوجته الجديدة التي احبها بعد وفاة زوجته القديمة ترك المركز نهائيا والبحث عن عالم آخر وطريق آخر غير عالم المركز هذا الفاقد للروح
في النهاية.. الرواية جميلة وممتعة وجديرة بالقراءة أكثر من مرة ..بسبب سلاستها وغنى مداليلها وعمقها الفكري والانساني..
نضال الماغوط