الدكتور يزن البدر
.
في مدخل الزمن السائل حيث تتآكل الحدود بين الماضي-والحاضر- والمستقبل، تحت وطأة الـ “الآن” الدائمة، تتحول الذات إلى ساحة معركة ولصراعٍ بين الكينونة والظهور… فلم تعد الأقنعة مجرد أوراق توتٍ تلتف حول الهشاشة الإنسانية، بل تحوّلت إلى أنسجة حيوية في جلد الهوية المعاصرة، حيث تتشابك مع الزمن المُعَولم الذي يُجبر الفرد على العيش في تعددية لانهائية من الأدوار المتزامنة… وهنا حيث ينفصل الزمن الكرونولوجي عن الزمن الفينومينولوجي، تُولد فجوة سيكولوجية هائلة؛ تسمى” تعددية الأقنعة” فلم تعد خيارًا، بل شرطًا بقاء في عالم يستهلك الهويات كما يستهلك المحتوى الرقمي. فالزمن المُسَرع يفرض حوّلنا سيركًا، وكل دورة عقارب تُصدر إشارةً لارتداء قناعٍ جديد…. والذات تُجَزّأ إلى مرايا متشظية تعكس توقعات الآخرين بدلًا عن جوهرها، وفي عملية “تسييل الهوية” التي وصفها بودريار كوهمٍ تفوق الواقع كل لقاء اجتماعي، وكل نافذة دردشة، وكل شاشة، تتحول إلى مسرحٍ للعب الأدوار، حيث تُستبدل الأنا المتسقة بفسيفساء من الذوات الجزئية التي تتناسخ حسب السياقات… ان هذه الازدواجية التكيفية ليست مجرد تناقض سطحي، بل انشطار أنطولوجي يُنتج ما أسماه لاكان “الهُوّة الدائمة بين الذات والآخر الكبير”، ولكن ببُعدٍ زمني، فالقناع لم يعد يُخلع بل يتجدد في كل “لا-مكان” و”لا-زمان” للفضاء الافتراضي… الخطير في هذه الديناميكية ليس تعدد الأقنعة بحد ذاته، بل التماهي المرضي مع الأداء، فعندما تتحول الحياة إلى سلسلة من البروفات المسرحية دون وجود مسرح حقيقي، يصبح الـ “كما لو” والذي تحدث عنه فرويد آلية دفاع مهيمنة، فالدماغ يُطور مسارات عصبية متوازية لإدارة الأقنعة المتزامنة، في عملية استنزاف معرفي تُعرف بـ “التكلفة السيكولوجية للتعددية الوهمية”. والإرهاق هنا ليس مجرد تعبٍ عابر، بل انهيار تدريجي للحدود بين الأداء والجوهر، حيث تُصبح الذات الحقيقية مجرد قناع آخر في صندوق الأقنعة.
وتحت سطح هذه الأقنعة المتلألئة، سيعيش الإنسان الحديث في حالة من “الاغتراب الزمني”: اذ يشعر بأنه يعيش في زمن ليس زمنه، وبقناع ليس قناعه… فالتكنولوجيا التي وُعدت بتحريرنا من قيود الزمان والمكان، تحولت إلى سجنٍ زمني ذو أبعاد سيكولوجية، فكل إشعار، وكل تنبيه، وكل صداقة جديدة، وكل تحديث يُعيد تشكيل الإيقاع البيولوجي للوعي، مُجبرًا إيانا على ارتداء أقنعة السرعة والكفاءة في عالمٍ يكافئ التمثيل لا الأصالة… وحتى لحظات “الوجود الحقيقي” صارت تُختزل في ستوريات تختفي بعد 24 ساعة كاستعارة مبطنة لزوالية الهوية المعاصرة.
وفي هذا المشهد السوريالي، قد تكون الأقنعة نفسها آخر ملجأ للبشرية ضد فوضى الزمن اللامتناهي…. ولكن السؤال الذي يخترق الضمير الجمعي مثل سكين فرويد؛ إلى متى يمكن للذات أن تتحمل هذا الانشطار الأنطولوجي قبل أن تتحول الأقنعة إلى جلدٍ دائم، وقبل أن يصير الزمن السائل إسمنتًا يخنق إمكانية التحول الحقيقي؟ فالجواب ربما يكمن في تلك اللحظة الشبحية بين قناعين، حيث يتسرب ضوء الهشاشة الإنسانية عبر شقوق الأداء، مذكرًا إيانا بأننا -رغم كل الأقنعة- مازلنا ننزف زمنًا حقيقيًا تحت الأقنعة.