: خورشيد أحمد
———————————————————————-
الحلقة الثانية.
: الأهمية الجيوسياسية لتركيا في الميزان الإمبريالي .
الموقع الجغرافي لتركيا أكسبها تاريخياً أهميةً جيوسياسية واستراتيجية ، حاولت الدول الغربية وأمريكا على وجه الخصوص تقريبها من المنظومةِ الإمبريالية في صراعها مع الاتحاد السوفييتي ، وفي إثارةِ التوتراتِ في المنطقة ، حتى غدت تركيا ناباً ساماً في فكّ الوحشِ الأطلسي .
فتركيا تشكّلُ جغرافياً في معظمِ مساحتها غرب آسيا وجزء منها جنوب شرق أوروبا في شبه جزيرة البلقان ، البقعةُ التي تركّزت فيها الجهودُ الإمبريالية لإثارةِ توتراتٍ عديدة تاريخياً ، كما أنّ إشراف تركيا على البحارِ والمضائقِ المائيةِ أكسبها إضافةً نوعيةً في أي صراعٍ بحريّ أو بريّ محتمل .
فالجزءُ الأوربي منها مفصولٌ عن الأناضول ببحرِ مرمرة ومضيقي الدردنيل والبوسفور ، كما أنّ البحر الأسود يحدّها من الشمال ، ومن الجنوب البحر الأبيض المتوسط وسوريا ، ويطلّ من الغرب على بحرِ إيجة ، وهي مساحات في غايةِ الأهميةِ لسلاحِ البحريةِ الأمريكية والغربية في أي نزاعٍ محتملٍ ناهيكَ عن أهميتها في الحركةِ التجاريّةِ .
كما أنّ تركيا تملكُ مساحةً تبلغُ ٧٨٣،٥٦٢ كم٢ وبثقلٍ بشريّ يتجاوزُ ٨٦ مليون نسمة . وهي عضو في الأمم المتحدة ، وفي حلف شمال الأطلسي( وجيشها هو ثاني قوة عسكرية في الحلف ) ، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، وعضوٌ مؤسس لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ، ومنظمة التعاون الإقتصادي للبحر الأسود ، ومنظمة التعاون الإسلامي ، ومجموعة العشرين ، كما أنها أصبحت من أوائل أعضاء مجلس أوروبا في عام ١٩٥٠ ، وعضوا منتسباً في المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام ١٩٦٣ ، وانضمّت إلى الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي عام ١٩٩٥ .
إنّ تركيز الإهتمام الأمريكي بشكلٍ خاص على الوضع الاستراتيجي المتميّز لتركيا الواقعةِ عند التقاءِ ثلاث قارات ، والتي لها حدود طويلة مع الاتحاد السوفيتي تناهز ثلاثة آلاف كيلو متر ، تجلّى هذا الإهتمام بالتقارب مع تركيا بعد الحرب العالمية الثانية ، وبالتحديد عام ١٩٤٧ عندما قدّمت أمريكا لأول مرّة مساعدة عسكرية إلى تركيا ، وفق مبدأ ترومان، وفي العام ١٩٤٨ زودتها بمعونة اقتصادية بموجبِ مشروعِ ماريشال ، ومنذ تلك اللحظة صارت النشاطات السياسية الخارجية للأوساط الحاكمة في تركيا تحاكي السياسةَ الأمريكية ، ولإثباتِ تركيا إخلاصها لمصالح العالم الغربي أرسلت في العام ١٩٤٩ قطعات عسكرية إلى كوريا ، ثمّ انتمت رسمياً في العام ١٩٥٢ إلى حلف الناتو العدواني ، وفي العام ١٩٥٥ إلى حلف السنتو ( حلف بغداد – وسنفصّل ذلك في حلقةٍ قادمة ) حيث بدأت على الأراضي التركية أعمالٌ محمومةٌ لبناءِ قواعد عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية ، وحلف الناتو ، رابطت فيها طائرات وصواريخ من أفضل ما توصّلت إليه التقنية العسكرية الغربية ، وبهذا تحوّلت تركيا إلى مخفرٍ أماميّ للإمبريالية العالمية ، فقد أقامت علاقات وديّة مع إسرائيل عام ١٩٤٩ وصلت في مراحلَ متقدمة إلى تحالفاتٍ عسكرية ، كما عارضت منحَ الشعبِ الجزائريّ الاستقلالَ في هيئة الأمم المتحدة ، كما شجبت قرار مصر بتأميمِ قناةِ السويس سنةَ ١٩٥٦ ، وكانت البلد الوحيد في المنطقة الذي أيّدَ العدوان الثلاثي عليها ، كما أنّ قوات الإنزال السريع الأمريكية نُقلت من أراضيها إلى لبنان محاولةً فرضَ نظامٍ موالٍ لأمريكا على الشعبِ اللبنانيّ ، وأبدت عن استعدادها للمشاركةِ في عدوانٍ على العراق عام ١٩٥٨ .
وهكذا صارت تركيا التي نالت حريتها واستقلالها بعد نضالٍ ضدّ الإمبريالية حليفاً للدولِ الإمبريالية في قمعِ حركات التحرّر الوطني في المنطقة .
وقد عبَّرَ ساسةٌ أمريكان في تلكَ الفترةِ أنّ تركيا وإسرائيل هما البلدان الوحيدان في الشرق الأوسط اللذان تستطيعان الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية أو اعتماد الولايات المتحدة عليهما .
والجديرُ بالذكرِ أنّ الاهتمامَ الأمريكيّ المنقطعَ النظير لا يمكنُ فهمهُ بمعزلٍ عن حالةِ العداءِ الإمبرياليّ ضدّ الاتحاد السوفييتي والدولِ الاشتراكية ، فمع تزايدِ الدورِ السوفييتي ، وظهور دولِ المنظومةِ الاشتراكيّة كقوّةٍ رادعةٍ للتمدّدِ الإمبرياليّ في العالم ، واستغلال السياسةِ الأمريكيّةِ تخوّفَ تركيا التاريخي من روسيا ، دفعت أمريكا الموقفَ التركيّ باتجاهِ الدولِ الإمبريالية ، انطلاقاً من جعلها حصناً متقدّماً للغرب ضدّ الاتحادِ السوفييتي .
في هذا الاطارِ بالضبط يمكنُ فهمَ تصريحَ الرئيسِ الأمريكي فرانكلين روزفلت
( ١٩٣٣ – ١٩٤٥ ) : ” إنّ الدفاعَ عن تركيا هو دفاعٌ في الوقتِ ذاتهِ عن الولاياتِ المتّحدةِ نفسها ” ، وعلى أساسِ مبدأ ترومان أطلقَ والتر ليبمان وأحد أشهر الصحفيين الأمريكيين يوم ١ نيسان ١٩٤٧ عبر صحيفة ” نيويورك هيرالد تريبيون ” التصريحَ التالي : ” لم يقع اختيارنا على كلّ من اليونان وتركيا بسببِ حاجتهما الفعليّةِ إلى المساعدة ، ولا لأنّ هذين البلدين يجسّدانِ النموذجَ الديمقراطيَّ ، بل أنّ اختيارنا لهما يستند إلى كونهما بوابتين استراتيجيتين تفتحانِ على قلبِ الاتحاد السوفييتي وعلى البحرِ الأسود ” .
وفي نفسِ الوقت أعلنَ الجنرال إيزنهاور الذي أصبحَ رئيساً فيما بعد : ” ما من بقعةٍ في الأرضِ أكثرُ أهميةً من منطقةِ الشرقِ الأوسط ” .
ومن هنا بالضبط تتأتّى أهيةُ تركيا من كونها موقعاً استراتيجياً يحقق للسياسةِ الأمريكية هدفها المزدوجَ : مواجهةُ الاتحاد السوفييتي ، وكذلك إقامة قاعدة إرتكاز للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط أغنى بقاع العالم .
إنّ المعطيات التالية تثبت أهمية تركيا في السياسة الإمبريالية :
١ – حدود مشتركة طويلة مع الاتحاد السوفييتي وخلافات تاريخية مع روسيا القيصرية ، وثقل إسلامي ، وعنصرية قومية نابعة عن الذهنية الطورانية يمكن استثمارها جميعاً كقاعدةٍ لمعاداة الشيوعيّة .
٢ – وجود خلافات بين تركيا وبلغاريا حول القضية المكدونية ومسألة المسلمين .
٣ – تراكم مخزون من مشاعرِ العداءِ التركي للعرب باعتبارهم السبب في هزيمةِ الإمبراطورية العثمانيةِ من وجهةِ النظرِ التركية .
٤ – الإمكانيات الكامنة في تركيا للعبِ دورٍ مهم على صعيدِ الدول الإسلامية باعتبارها دولةً اسلاميةً ذات ثقلٍ نوعيّ في المنطقة .
٥ – وقوعُ ممرّي البوسفور والدردنيل بين البحر الأسود والبحر المتوسط ضمن الأراضي التركية ، هذان الممران الوحيدان اللذان يمكن للاتحاد السوفيتي استخدامها لقطع أسطولها في المرور منها إلى البحر الأبيض المتوسط ، واطلالتها كذلك على البحر المتوسط وقربِ شواطئها من جزيرةِ قبرص ، وجزر بحرِ إيجة .
وانطلاقاً من هذه الأهمية لتركيا بالنسبةِ للسياسةِ الأمريكية فقد دفعت الادارةُ الأمريكية منذُ عام ١٩٧٨ بكلّ ثقلها من أجلِ منعِ تركيا من الانهيارِ أوِ الإنزلاقِ نحو الثورةِ ، خاصةً بعدَ التطوراتِ بالغة الأهمية والخطورةِ بالنسبةِ للأمريكان ، والتي تمثّلت في :
١ – سقوطُ نظام الشاه في إيران عام ١٩٧٩ وتوقّف دور ونشاط القواعد الأمريكية في إيران .
٢ – قيام الثورة الأفغانية بمساعدةٍ سوفياتيةٍ الأمر الذي يعني بالنسبةِ للأمريكان والغرب امتدادَ النفوذِ السوفييتي إلى مناطق النفط العربية التي تعتبرها أمريكا مصالح حيوية لها .
٣ – وصول الحزب الديمقراطي الاشتراكي بزعامةِ باباندريو إلى السلطة في اليونان في الانتخابات التي جرت عام ١٩٨١ – ١٩٨٦ وإعلان عزمهِ عن إلغاءِ القواعدِ الأمريكية فوق الأراضي اليونانية .
٤ – تعثّر سياسة تطبيع العلاقات بين النظام المصري والكيان الإسرائيلي نظراً لعجز النظام عن فرضهِ على الشعبِ المصري .
إزاءَ هذه التطوّرات مارستِ الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطاً ومغرياتٍ كثيرةً ، نجحت من خلالها في جعلِ تركيا توقّعُ معها اتفاقَ ” التعاون الدفاعيّ ” الذي يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بالاستمرار في استخدام قواعدَ عسكريةٍ ومراكزَ لمراقبةِ التحركاتِ السوفياتيةِ في أنقرة بتاريخ ١٠ كانون الثاني ١٩٨٠ ويقضي الاتفاق باعادةِ تنشيطِ ٢٦ قاعدة عسكرية لحلف شمال الأطلسي مقابلَ معونةٍ اقتصاديةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ ، لا تقلّ عن مليارين ونصف دولار سنويّاً . وإثرَ ذلك صرّحَ السفيرُ الأمريكيّ ” رونالد سبايرز ” أنّ الاتفاقَ هو :
” وثيقةٌ مهمةٌ تشكّلُ منعطفاً في تطوّر العلاقاتِ بين تركيا والولايات المتحدةِ ” .
وما زالت تركيا وإلى اليوم تشكّلُ ذلكَ الظفرَ السامَ لحلفِ الشمالِ الأطلسي ، وهو ما يمكنُ معاينتهُ من خلالِ افتعالِ المشاكلِ وخلقِ بؤرِ التوتّرِ مع دولِ الجوارِ : اليونان ، وسوريا ، والعراق والتدخّل في شؤونِ دولِ آسيا الوسطى ، والابقاءِ على الوضعِ الاحتلاليّ لجزيرةِ قبرص منذُ العام ١٩٧٤ ونزعةُ التوسعِ والامتدادِ إلى إفريقيا ، مع تلويحِ معظمِ الساسةِ الأتراك وعلى رأسهم أردوغان بالميثاقِ الملّي في وجهِ كلٍّ من العراقِ وسوريا .
يتبع ……